No Image
إشراقات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

03 أغسطس 2023
03 أغسطس 2023

روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من باع دارا أو عقارا فوضع ثمنه في غير مثله لم يبارك الله فيه» ما صحة هذا الحديث؟

هذا الحديث مختلف فيه اختلافا واسعا بين علماء الحديث أهل الصنعة والاختصاص، فمنهم من ضعّفه ومنه من حسّنه وقبله، والذين قبلوا هذا الحديث حمّلوه على معنى أن يحافظ المرء على ما في يده من الأصول وأن لا يتلف هذه الأصول في منقولات لا تعود عليه بنفع، ولذلك فإن في الحديث لما ذكر صلى الله عليه وسلم بحسب هذه الرواية «ولم يجعل ثمنه في مثله، كان قمِنًا أن لا يبارك الله فيه» قالوا هذه صورة مستثناة دلت على الحكمة من هذا النهي، فالحكمة أن يسعى المسلم إلى أن يتأثل أصولا بدلا أن يتلف أمواله ثم يقعد بلا دار أو عقار يعود عليه بخير أو سكنى أو دار يسكن فيها، فحملوه على هذا المعنى، أي أن يتلف ماله في غير حاجة أو ضرورة ملجئة، فإن من الصور التي استثناها القائلون بقبول هذه الرواية حالة الضرورة التي تدفع المرء أن يبيع داره أو أن يبيع شيئا من الأصول التي في يده ليتخلص من غرم نزل به أو من دين يثقل كاهله، فهذه صورة مستثناه، والنهي عندهم مقيد بهذه الضوابط، وكما تقدم، فإن عددا من أهل العلم يرون أن الحديث ضعيف وهو قول أكثر المحدثين، وأن التفسير المتقدم كان بناء على ما عند أولئك الذين يرون أن الحديث مقبول ويمكن أن يحتج به فوجّهوه هذا التوجيه والله تعالى أعلم.

جدة تقوم بشراء هدايا وملابس وألعاب لأحفادها مع العلم أن أحفادها لديهم الكثير من الملابس والألعاب، وقد قامت أم الأطفال بتنبيه الجدة (وهي أمها) أن الأطفال لديهم الكثير من الملابس والألعاب، وأن هذه الهدايا تكون فائضة عن الحاجة، وإسرافا، ولكن الجدة لا تزال مصرة على شراء الملابس والألعاب لأحفادها، فقامت الأم سرا بتوزيع هذه الهدايا والثياب على الفقراء والمحتاجين، فهل تأثم بذلك، وهل تعدت على حق الأطفال أم لا؟

الأولى أن تستمر في نصحها وتنبيهها وبيان الأمر لها، وأن تستأذنها في أن تدفع شيئا من هذه الهدايا إلى غير هؤلاء الأطفال، إلى الفقراء والمساكين، أو إلى غيرهم من الأطفال من ذوي القربى والرحم، وقلت إن الأولى أن تستأذن حتى لا يؤدي فعلها -إن تبيّن للجدة أو للأطفال- إلى قطيعة رحم وإلى ضرر داخل الأسرة وهي قد قصدت أن تكون هذه الهدايا لأحفادها، فإذا كان تصرفها ناشئا عن رشد وإرادة وتمييز، فالأولى أن يكون إخبارها بالحسنى، إما أن تقلل من هذه الهدايا لأنها فوق احتياج الأطفال وقد تؤدي إلى أن لا يستفاد منها، أو أن تستأذنها في أن تدفع هذه الهدايا إلى غير هؤلاء الأطفال. هذا هو الأولى الذي نراه لها، والله تعالى أعلم.

امرأة تسأل عن تركة والدها، فيما يخص راتب عامل المزرعة، هل راتبه يقسم على الورثة بالتساوي أم على حسب قيمة السهم المستحق للفرد الواحد، علما أن راتب هذا العامل لم يكن ضمن تركة والدها، حيث إنهم جلبوه بعد وفاته؟

إذا كان العامل في خدمة التركة، فالأصل أن يكون من أصل التركة، فظاهر من السؤال أنهم لم يقتسموا، فإذا كان الأمر كذلك فليكن من أصل التركة لأن الورثة سيقتسمون ما هو من حقهم وإن كانوا محتاجين إلى هذا العامل وهو يقوم بشيء من الأعمال التي تخص التركة كشيء من المزارع أو المحلات أو غير ذلك من الأمور التي لا بد لهم فيها من عامل فإن هذا من كلفة صيانة هذه التركة.

لكن لا بد من التنبيه مرة أخرى على أهمية المبادرة إلى اقتسام الميراث لأن تأخير قسمة الميراث دائما يؤدي إلى مشكلات ويؤدي إلى قطيعة بين الورثة أنفسهم، وقد تمنع محتاجا من حقه، وقد تطول آلمه ويموت بعض الورثة وتتعقد المسألة أكثر، فالأولى المبادرة إلى القسمة.

هذا من نوع هذه التعقيدات، هم الآن في مسألة راتب هذا العامل لا يعرفون من أين يكون راتبه، والجواب هو استنتاج من هذا السؤال أنهم لم يقتسموا بعد، لأنهم لو اقتسموا لكانت أجرة هذا العامل على من كان تحت كفالته وأحضره ويقوم له بعمل، لكن الظاهر أنهم لم يقتسموا وأنهم أحضروه لخدمة تتعلق بشيء من التركة التي يرجع نفعها وصيانتها للورثة جميعا، فليكن من أصل المال، وهذا لن يحدث فرقا، فإذا قلنا الآن إنهم يحسب من أنصبتهم كل بحسب حصته من التركة، فستكون النتيجة بعد ذلك هي النتيجة نفسها ما لو خصم المبلغ الآن واقتسموا ما بقي من بعد، والله تعالى أعلم.

في قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، إذا كان معناها المشقة والتعب والضعف، فلماذا في الآية التي تليها جاء السؤال (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) إذ إن هذا السؤال الاستنكاري عادة ما يوجه إلى الشخص الذي خلق في عزة وقوة؟

أولا للتصحيح، فإن معنى «كبد» ليس فيه معنى الضعف، وقد اختلف فيه المفسرون وعلماء اللغة، فمنهم من قال النصب والتعب، ومنهم من قال هو المعاناة والشدة، وهذان المعنيان قريبان جدا من بعضهما، فإن النصب والتعب إنما ينتجان من المعاناة والشدة التي يواجهها المرء، ومنهم من قال إن (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) أي في استقامة واستواء، وهذا القول نسب إلى ابن عباس وسئل عن أصله في لغة العرب واستشهد له، وهذا القول ضعّفته طائفة من المفسرين واللغويين.

والقول الرابع هو أن معنى الكبد هو القوة والشدة، وذكروا في ذلك قصة، اختلفوا في من نزلت فيه، فذكروا رجالا معروفين بالشدة والقوة والبأس الشديد، فجعلوا الخطاب مناسبة نزول الآية الكريمة هي في أمثال هؤلاء من الأقوياء الأشداء الذين يتنكرون لدعوة الحق، إذن هذه المعاني التي يدور حولها معنى كبد.

وتوجيهها في تفسير السياق القرآني، لأن الآية التي بعدها (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ومطلع السورة (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)، فمن قال إن المقصود هو المعاناة والمكابدة فيقول إن الإنسان هنا جنس عام، وأن هذا الكشف القرآني لحقيقة الحياة وحقيقة ما يواجهه الإنسان وهو في بطن أمه وإلى أن يولد ثم في الآخرة هو بيان لحقيقة الحياة وما يواجهه هذا الإنسان فيها من المعاناة واللأواء والصعاب وما يتكبده فيها من مشاق مما يدعوه إلى الاعتراف والتسليم بتدبير الله تبارك وتعالى وقدرته المطلقة، فلإن كان شأنه في الحياة كذلك فهو أعجز مما يتعلق بالحياة الآخرة، (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) إذا آل أمره إلى الاضمحلال وصار عظاما رميما، فإنه يكون أعجز عن التغلب عما سيواجهه في الحياة الآخرة وهذا معنى حسن جيد ولذلك قلت إن المعنى الأول والثاني يلتقيان في التوجيه، ومن المفسرين من قال إن المعاناة والمكابدة الأنسب في هذا السياق القرآني أن تحمل على ما يواجهه الجاحد الكافر، فجعل الآية الكريمة (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) تدل على العموم العرفي للإنسان الجاحد بدلالة السياق القرآني لأن بعدها الحديث عن المنكر الجاحد، فقال (أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فكشف ربنا تبارك وتعالى ما يواجهه هذا الإنسان الجاحد من اضطراب بينما تدعوه إليه فطرته وما هو عليه من جحود وكفران، وبين ما تتنازعه من الأهواء والشهوات وما يؤمن به من آلهة متعددة يلجأ إليها أو يمجدها ويثني عليها ثم إذا اشتدت به الكروب فإن واعز الفطرة يدعوه إلى الخالق الواحد الأحد، وما يكتنفه من أحوال في الشدة والرخاء، فيقول إن شأن هذا أنه يكون في معاناة وكبد، فيلتفت إلى الجانب المعنوي النفسي الناتج عن مخالفة الفطرة والإعراض عن الدين الحق، فإنه يظل هكذا في صراع وعراك مع نفسه ويكون في اضطراب وتناقض مع نفسه ومع الكون من حوله فيقول إن منشأ المعاناة والمكابدة هي هذه الجوانب ولذلك ناسب السياق أن يقول بعدها (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) وهذه المعاني كلها معان حسنة مقبولة يحتملها السياق القرآن، والله تعالى أعلم.

وذكر المفسرون أسماء لبعض أهل الشرك والجاهلية ممن تحدوا دعوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويبقى الاعتراض أن يحصر معناها في الأشداء والأقوياء، والسياق هو سياق إعذار وإنذار هذا يمكن أن يكون اعتراضا قويا على هذا المعنى ولا يبعد أن يكون ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هو نفس هذا القول، فهو يقول الاعتدال والاستقامة، لأن الإنسان خُلق هكذا مستقيما قويما منتصبا، فهذا يعني أنه في قوة وشدة على خلاف سائر المخلوقات من الزواحف والبهائم والطير، فلا يبعد أن يكون هذا هو المعنى اللغوي الذي أخذ منه هذا المعنى التفسيري، فذكرت فيه أسماء الوليد بن المغيرة، وآخر يكنى بأبي الشدين كان قوي البنية وتذكر له قصص، لكن على سبيل المثال سفه الإمام الرازي هذه الأقوال لأنها لا تستند إلى روايات صحيحة، فلماذا نعدل إليها عما يدل عليه النص القرآني، لذلك هو سوغ ما ذكرته من المعاني المفردة في الآية الكريمة مع السياق القرآني.