No Image
إشراقات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

20 أكتوبر 2022
20 أكتوبر 2022

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير)، من هم هؤلاء وما صفاتهم؟

المقصود بهم الذين لا يحملون حقدًا ولا حسدًا أولئك الذين تكون قلوبهم سليمة من آفات أمراض القلوب التي يمكن أن تصيب بعض الناس فتؤدي بهم إلى الانحراف عن الحق، وإلى اتباع الشهوات والزيغ عن الصراط المستقيم، إذ المعلوم أن الطير تسعى بفطرتها إلى ما فيه مصلحتها، ولا تشتغل إلا بما يجلب لها النفع، وتنأى بنفسها عما يمكن أن يصيبها من ضر وأذى، فتجد في العمل، وتكدح في هذه الحياة وتكسب رزقها، ولا تشتغل بما لا ينفعها، وتكون بعيدة عما يجذب لها الضر والأذى، أو عما يعرضها إلى الخطر، فمثل هذا مثال لما ينبغي أن يكون عليه حال المسلم المُوفِّي، نقي القلب، طاهر السريرة، صالح الظاهر والباطن، فحينما نقلب صفحات من تناولِ هذه الرواية بالشرح، ونظرٍ إلى معانيها الظاهرة والباطنة، فإن كلامهم يدور حول هذا، فتتفاوت عباراتهم، وينظر كل منهم إلى جهة، لكنها لا تخرج عن هذا المعنى، وأقصد بأن بعض شراح الحديث نظروا إلى جهة دون أخرى أن منهم من غلب جانب الباطن، بصفاء النفس ونقاء السريرة، وعدم الاشتغال بما لا منفعة فيه باطنا، ومنهم من غلب جانب السعي في هذه الحياة بالجد والكدح فيها، وغلب المعاني الظاهرة، لكني لا أظن أن كل فريق منهم يهمل الجانب الآخر، وإنما يغلِّب جانبًا يلتفت إليه، ويحمل عليه أحوال أهل الجنة، والصحيح أن صلاح الباطن واستقامة الظاهر هي التي تؤدي بالمرء إلى حسن الخاتمة، والله تعالى أعلم.

ما معنى الآية في قوله تعالى: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ)؟

هذه الآية الكريمة عند جمهور مفسري السلف -رضوان الله تعالى عليهم- من الصحابة والتابعين أنها حكاية من الله تبارك وتعالى على لسان الملائكة ردًا على ما نسبه المشركون أو المعترضون؛ إذ إن بعض أهل العلم يرى أن المعترضين هؤلاء كانوا من أهل الكتاب من اليهود، وعلى كل فإنَّ في هذه الجملة القرآنية ردًا على هؤلاء يحكيه الله تبارك وتعالى على لسان الملائكة، ومعنى المقام هو مكان القيام، ولكثرة ملازمة القيام، فإنه يطلق على العمل الذي يشتغل به في القيام ولذلك يقال مقام، كما في قول الله تبارك وتعالى على لسان نوح عليه السلام: (إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ) والمعلوم هو المخصص المعين فمعنى قوله تعالى على لسان الملائكة إذن أنه ما من ملك إلا وله مقام في السماوات مخصوص معين وله مقام في العبادة، والتسبيح لله تبارك وتعالى وأداء ما كلف به وما خلق من أجله مخصص معلوم، ويشهد لهذا التفسير جملة من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كحديث الإسراء المشهور، وحديث: «إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ، أَطَّتِ السَّماءُ، وحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ واضِعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لله تَعَالى» وما أشبهها من أحاديث، ويتناسب السياق مع هذا المعنى أيضًا، ذلك أن هؤلاء المشركين نسبوا لله تبارك وتعالى الولد، ونسبوا إليه الملائكة، وجعلوا الملائكة إناثا، وأن الملائكة بنات الله، فجاء الرد يؤكد هذا المعنى أيضًا ما ورد بعد هذه الآية الكريمة وهو قوله تعالى: (وإنا لنحن الصافون (165) وإنا لنحن المسبحون (166)) هذا القول هو أشهر الأقوال وهو من أجود الأقوال لتناسبه مع سياق الآيات في سورة الصافات، ولما يستأنس به أيضًا من أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- التي تقدمت الإشارة إلى بعضها.

وذهب بعض المفسرين إلى قول هو قول حسن أيضًا، وهو أن هذا الخطاب (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) هو خطاب يعلمه الله تبارك وتعالى لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- والمعنى ما منا نحن المسلمين إلا وله مقام معلوم، سواء الملائكة أو الجن الذين بالغ المشركون في تصويرهم وتشبيههم، وتصور قواهم، ونسبة ما نسبوه إليهم ضلالا وانحرافا، فيعلم الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم بهذا الخطاب، أننا ما منا من أحد إلا وله مقام معلوم، فنحن ندين لله تبارك وتعالى بالعبودية، ونحن خلق خلقنا الله تبارك وتعالى وكل لنا منه مقام معلوم لا يتعداه، فالملائكة خلق من خلق الله تبارك وتعالى لهم من التكاليف والأمانات ما حملوا إياه، والجن خلق من خلق الله تبارك وتعالى مأمورون بعبادته والتدين له جل وعلا، فما منا من أحد إلا وله مقام معلوم، فهذا القول قول حسن أيضًا، وهنالك أقوال حكاها بعض المفسرين لكنها أضعف من هذين القولين، منها أن المقصود هو ما كان عليه حال المسلمين في الصلاة فقد كان الرجال والنساء في صفوف مختلطة في الصلاة حتى نزل قوله تبارك وتعالى: (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ) فتقدم الرجال في الصفوف وتأخرت النساء، وهذا حكي عن بعض التابعين فقد قاله الماوردي ونسبه إلى قتادة.

وقيل بأن المقصود أي أنه ما منا من أحد إلا وله مقام عند ربه يوم القيامة، بناء على استجابتنا لأمره، ولما كلفنا به فإن لنا عنده يوم القيامة منزلةً ومكانةً ومقامًا معلومًا لا نتعداه. والله تعالى أعلم.

ما معنى الحكمة الواردة في آيات الكتاب العزيز؟

الحكمة اختلفت فيها كلمة المفسرين والعلماء اختلافًا كثيرًا، ولا حاجة لنا في الإطالة، وأذكر أن من أجود ما اطلعت عليه هو كلام نقله الفخر الرازي عن قتادة، قال فيه: «إن الحكمة في القرآن الكريم ترد على وجوه أربعة، الوجه الأول مواعظ القرآن، واستشهد لذلك ببعض آيات منها مثل قول الله تبارك وتعالى في سورة البقرة: (وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)، والوجه الثاني الفهم والعلم واستشهد لذلك بقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وقوله تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ) فالمقصود الفهم والعلم، والوجه الثالث النبوة، واستشهد لذلك أيضا ببضع آيات منها: (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)، والوجه الرابع: هو القرآن بما اشتمل عليه من عجائب الأسرار، فلا يقصد القرآن بالمعاني الظاهرة التي يتوصل إليها كل من يتلوا كتاب الله تبارك وتعالى، وإنما يقصد ما يشتمل عليه من المعاني واللطائف والأسرار والعجائب، ثم عقَّب الرازي على هذا النقل بأن هذه الوجوه إنما هي في استعمال الحكمة في القرآن الكريم، وإلا فالحكمة التي تعني موافقة الصواب، إذن هي من حيث الوضع اللغوي تدور حول معاني موافقة الصواب، ولذلك تجد أن علماء اللغة يقولون إن الحكمة من الإحكام، وهو وضع الشيء في موضعه مع القوة وعدم التردد، وهي معاني تدور حول موافقة الصواب، ثم وسع هو وقال إن حد الحكمة لغة هو التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، أخذ ذلك من رواية يذكرها، يكتبون في الأخلاق «تخلقوا بأخلاق الله» أي أن الله تبارك وتعالى وصف نفسه بالرحمة والعدل والحكمة والإحسان إلى آخر هذه الأوصاف، وهذا مما ينبغي للمسلم أن يتحلى به بقدر طاقته البشرية، ونجد عند علماء التفسير الكثير من الأقاويل في معنى الحكمة في مواضع مخصوصة من كتاب الله عز وجل نجد أحيانًا أن المقصود من ذلك سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا لا يخرج أيضًا عن الوجوه الأربعة؛ لأن منها النبوة كما تقدم.

لكن لو أريد لنا أن نستقرئ أولا ما في كتاب الله عز وجل من المواضع التي وردت فيها الحكمة، وأن نرد ذلك أيضًا إلى الأصول والاستعمال اللغوي لهذه الكلمة، فإننا سنخرج بأن الحكمة تشمل جانبين: النظري والعملي، فالجانب النظري يتعلق بالإدراك والفهم والعلم، والجانب العملي يتعلق بحسن الخلق والقول الطيب وحسن التدبير، إذن لو أريد لي أن أضع وصفًا جامعًا مانعًا للحكمة، وستصلح لما وردت عليه في كتاب الله عز وجل فإني أقول بأن الحكمة هي وصف جامع لجودة الإدراك ودقة الفهم وجميل الخلق وطيب القول وحسن التدبير، لنستوعب بذلك شقيها النظري والعملي ولتشمل الوجوه التي وردت عليها في كتاب الله عز وجل، قد يقصد بالقرآن الكريم في موضع معنى ليكون أظهر وأغلب على السياق من المعاني الأخرى لكنها لن تخرج عن هذا الوصف الجامع. والله تعالى أعلم.