No Image
إشراقات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور مساعد المفتي العام لسلطنة عُمان

22 سبتمبر 2022
22 سبتمبر 2022

ـ ما مفهوم العلم النافع الذي ورد في الحديث الشريف الذي ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يدعو الله بالعلم النافع؟

العلم معلوم، ولذلك فإن تعريفه يكاد يكون من السهل الممتنع، حتى إن بعض العلماء عد في تعريف العلم ما يزيد على 100 تعريف، لكن خلاصته التي تبين ماهيته، هو ما ينفي به المرء الجهل عن نفسه، فيعود عليه بالنفع والفائدة في أمر دينه ودنياه، كل ما اكتسبه الإنسان مما يكشف له شيئا من حقائق وجوده في هذه الحياة، وما ينفع ويعود عليه بالفائدة، ويقشع عنه سجف الجهل، وينور له بصيرته، وينعش له عقله، ويحيي له ضميره فإنه من العلم النافع ولذلك فإنه معلوم عند الناس كل ما يكتسبه هذا الإنسان مما يحتاج إليه في أمر دينه ودنياه مما يعود عليه بفائدة ونفع هو من العلم النافع، وتقييد العلم بالنافع لنفي كل ما كان جالبًا لمضرة أو ما كان مضيعة لوقت وجهد ومال فإن من العلوم والمعارف ما عده الناس كذلك لدى بعض الثقافات والشعوب، فإن لم يكن في التعرف عليها والتزود منها ما يعود عليه بنفع فإنه لا حاجة إليه به لأنه لن يعدو أن يكون مضيعة للوقت والجهد.

سأضرب لذلك مثالًا في القرن الرابع الهجري صنف الكاتب أبو عبدالله الكاتب الخوارزمي كتيبًا شهيرًا تداوله طلبة العلم من بعده، وأقبل عليه الناس اسم هذا الكتاب «مفاتيح العلوم» لما جاء إلى علم في ذلك الوقت في أواسط القرن الرابع الهجري إلى أواخره، تحدث عن علوم العجم وعد منها علوم الموسيقى، وتحدث عن آلاتها ولكنه لم يزد عن صفحتين ونصف، في حين أنه عندما تحدث عن علوم الهيئة وعلوم الطب، وعلوم النبات، وعلوم الحساب أفاض فيها القول لاحتياج الناس إليها، هذا الكتيب يكشف لنا بعض الحقائق التي قد تخفى على الناس اليوم، ومن ذلك أن تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية لم تواجه جدلية مصطنعة في العلوم الدينية والعلوم الدنيوية بكل أنواعها لذلك تجد أنهم حينما تحدثوا عن مفاتيح العلوم، ذكروا علوم الدين والعربية والآلة والفلسفة والمنطق كما أنه ذكر أيضًا العلوم التي يعدها الناس اليوم من العلوم التطبيقية وذكر من العلوم الإنسانية كعلم التاريخ وعلم الاجتماع بهذه الأسماء.

ونجد ما هو أغرب من ذلك، فنجد فیروزآبادي صاحب «القاموس المحيط» له عمل يخفى على كثير من الناس في تفسير كتاب الله عز وجل، واسمه «بصائر ذوي التمييز» ومعلوم أن فیروزآبادي كان في أواخر القرن الثامن الهجري وبداية القرن التاسع، فكتابه هذا أراد به أن يكون موسوعة في مختلف العلوم والمعارف الموجودة في زمانه ذلك، ومول له مشروعه هذا وتبناه الملك نظام الدين الرسولي في اليمن في ذلك الوقت، وهيأ له ما يحتاج إليه من مكتبات وباحثين وعلماء ومده بالمال، وقام فیروز آبادي في الجزء الأول من كتابه هذا ببيان المقاصد التي سيكتب فيها، وسماها مقاصد، وذكر أنه سيكتب في 60 مقصدًا، وفي المقدمة سمى هذه المقاصد، ولكنه وقف عند المقصد السادس والخمسين، ولكنه لم يكتب شيئا في هذا المقصد، هذه المقاصد هي عناوين ومفاتيح لعلوم ومعارف كانت في ذلك الوقت، منها «علم تدبير المنزل» وعلم السياسة، وعلم الجبر والمقابلة، وعلم الهيئة، وعلم النباتات والحشائش، علم كيفية الكتابة والخط، وعلم الحروف، وعلم النطق، وغيرها من العلوم، بالإضافة إلى العلوم العقلية وعلم الآلة فإنه تحدث عن تفاصيل العلوم في الفلك والرياضيات والطب والجراحة والتشريح والنباتات والحيوان، وعلم حساب سطح الأرض، وأنواع من العلوم سماها صعبت على المحقق نفسه مما دفعه إلى أن يعود إلى كتب الأوائل لمعرفة ما يقابل هذه العلوم مما نعرفه نحن اليوم، ولذلك سمى هو بعض العلوم التي ذكرها، سماها المحقق بالأسماء التي نعرفها نحن اليوم، منها علم التفاضل والتكامل، وعلم الفضاء.

ولذلك فإنَّ العلم النافع كان واضحًا عند سلف هذه الأمة، وكان أمرًا منكشفًا لهم، وكثير من هذه الجدليات المصطنعة ما كانت موجودة، وكانوا يستندون في كل ذلك إلى علم الشريعة، وهذه مسألة أيضًا بالغة الأهمية تخفى على كثيرين اليوم من طلبة العلم، ومن صناع القرار، ومن المشتغلين بالتعليم عمومًا. والرابط أن هذه العلوم جميعًا إنما ترتكز على علوم الشريعة، وتنبثق منها، ولذلك فإن تأسيس العلماء كان يبدأ بعلوم الشريعة من علوم القرآن والقراءات وحفظ كتاب الله عز وجل وتفسيره، ومن علوم السنة، وعلوم الآلة من النحو والصرف والبلاغة بأنواعها، وعلوم المنطق والفلسفة ثم بعد ذلك ينطلقون إلى العلوم الأخرى يبدعون ويبتكرون فيها، ويعرفون بها لكنهم ما كانوا يخرجون عن علوم الشريعة، فكانت المرتكز الذي ينطلقون منه، وهي التأسيس الأول ولذلك فإنها ضبطت لهم حركة العلوم الأخرى، وأورثتهم المنهج العلمي القائم على الدراسة والبحث والنظر والتأمل والفحص ثم الاستنتاج ثم فحص النتائج، وهذا منهج قرآني استفادوه من كتاب الله عزوجل الذي دعاهم إلى التفكر والبحث والنظر والتعقل والدراسة وإقامة الحجة والبرهان والوصول إلى النتائج، وفحص هذه النتائج للتحقق منها، وفي استعمال العلوم نفسها، أي في آثار هذه العلوم فإنهم وجهوها إلى صلاح هذا الإنسان وإلى صلاح الحياة؛ لأنهم ينطلقون من قول الله تبارك وتعالى: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) أي بعد أن أوجدها ربنا تبارك وتعالى صالحة، فاستفادوا في المنهج والاستعمال والأثر.

كذلك ما كانت علومهم سببًا في الدمار وفي القضاء على الموارد الطبيعية، وفي تشويه هذا الإنسان وفي البعد عن دين الله تبارك وتعالى وحقوق الخالق عليه، بل كانت كلها تعزز أنانية هذا الإنسان وكرامته وصلته بالخالق وتعظيمه للخالق جل وعلا مما يكتشفه هذا العالم أو المتعلم في المجال وتخصص الذي يدرسه ويبحث فيه، فيعظم ربه تبارك وتعالى فيزداد توقيرا له ويزداد خشية له، وعلى هذا نفهم قول الله تبارك وتعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)؛ لأنها وردت في سياق بيان حقائق علمية مبثوثة في هذا الكون، ثم إنهم أيضًا في ما يتعلق بالالتقاء في الهدف، فإذا كان هدف علوم الدين عمومًا إصلاح هذا الإنسان وإصلاح حياته ومعيشته في الدنيا والآخرة فإن هذه العلوم أيضًا تلتقي معها في هذا الهدف، فالمراد منها إصلاح الإنسان وحياته ومعاشه، وتعظيم حق الخالق تبارك وتعالى المنعم عليه بكل ذلك ليسعد في الآخرة كذلك.

فلذلك لا نجد في حضارة المسلمين ما يتعلق بالقضاء على موارد هذه الحياة والعدوان على مواردها الطبيعية، وعلى عناصر البيئة فيها، أو التسور على حق الإنسان الضعيف أو الفقير أو المسكين، بجعلهم حقول تجارب، أو باكتشاف ما لا نفع له ولا فائدة للإنسانية، كانت العلوم والمعارف موجهة صوب منفعة هذا الإنسان منفعة راشدة تبقيه في إطار دينه وشريعته وإيمانه بالله تبارك وتعالى واليوم الآخر، وبلغ الحال بالناس اليوم إلى أن يتوهموا العكس، أن يطالبوا عالم الشريعة أن يكون عالمًا في هذه المجالات، وهذا من انقلاب المفاهيم، فقد فهموا ما كان عليه علماء السلف على غير حقيقته، فكان التأسي كما أسلفنا يبدأ بعلوم الشريعة فلا يخلو أحد منهم إلى القدر الذي يحتاج إليه، ومنهم من يبدع في مجال من مجالات علوم الشريعة على تنوع أفانينها وعلومها لكنهم ينطلقون بعد ذلك في العلوم الأخرى فيبزغ نجمهم في تلك العلوم ويعرفون بها، نظرا لأن تأسيسهم كان ابتداؤه بالعلوم الشرعية، فإنهم يعرفون أيضا بعلوم الشريعة، ولم يكن يحصل العكس.

لهذا لا نجد أيضا من هؤلاء من هو عالم مجتهد ممن يؤخذ منه الفتيا والقول في مسائل العقيدة على سبيل المثال إلا بقدر، لكن هذا لا يعني أنهم كانوا فارغين من علوم الشريعة، فقد كانت مرتكزهم الأخلاقي، تحكم لهم علومهم، فهذه الحقائق تخفى اليوم على كثير من الناس لا ينتبه إليها المتعلمون ولا المعلمون ولا صناع القرار.