No Image
إشراقات

الترحيب بأقدار الله

18 أبريل 2024
18 أبريل 2024

تتأثر النفس البشرية بما يقع عليها من مجريات الزمان من محن وابتلاءات ومصائب وكوارث، ويكون تأثير ذلك عليها على حسب قدرتها على الصبر والتحمل، وبما آتاها الله من إمكانات على التكيف والتجاوز والنسيان.

ولكن لنفس المؤمن قدرة مختلفة، فهي تعلم يقينا أن ما يقع عليها يقع تحت المشيئة الإلهية، وأن هذا الأمر الذي سمح الله به أن يصيبنا يراه الله كما أنه يرى ردة فعلنا تجاه هذا الأمر، فكل حركة أو سكون في هذا الكون يقع بمشيئة الله في ملكه وعلى خلقه، فلو راقب الإنسان تلك الأقدار مع يقينه المطلق أن كل ذلك من أمر الله، فإنه حينها تسكن نفسه وتطمئن، ولن يحملها ألم الابتلاء وهول المصيبة إلى القنوط واليأس، وإنما يكون الحال بالاحتساب والتسليم والصبر والتجلد، وانتظار الفرج، ومد يد الضراعة إلى الله عز وجل.

ركن الإيمان

وهذا ما يقتضيه الإيمان، فإن أحد أركانه التي لا يكتمل بناء الإيمان إلا بها هو الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى، ولو تأملنا هذا الركن لوجدنا أن الإيمان به هو إيقان بقدرة الخالق وتصرفه بأمور خلقه، فكل ما خطه القلم في اللوح المحفوظ من قضاء يتعلق بأعمال العباد أو ما سيجري عليهم في حياتهم الدنيا، وهو في علم الغيب الذي يعلمه الله، وكل ما أذن الله لوقوعه وحان أجل تحققه من الأقدار التي أجراها الله في هذه الحياة إنما هي من عند الله وحده، وبهذا يكون المؤمن إلى التسليم والرضا والاحتساب أقرب.

المراقبة

كما أنه ينبغي على المؤمن أن يراقب الأحداث والمجريات التي تقع عليه من منظور أوسع، فهو يجب عليه أن ينظر من فوق لتلك الأحداث ويشاهد لا بعقلية المشارك الذي وقع عليه الحدث، وأضعفه واستحوذ عليه شعور الحزن واليأس، وإنما عليه أن ينظر للأمور بعقلية المشاهد للحدث من الأعلى، لكي تكون نظرته شاملة مراقبة فاحصة متأملة، فبهذه التقنية يستطيع أن يدرك الأحداث ويعزلها ولو بقدر بسيط عن المشاعر والأحاسيس الناجمة عنها، فيكون صبره حاضرا عند الصدمة الأولى للمصيبة الواقعة.

الصبر

في قصة المرأة التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: «تبكي صبيًا فنصحها فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فلما أخبرت أنه الرسول صلى الله عليه وسلم ذهبت إليه في بيته فلم تجد عند بابه بوابًا، فاستأذنت عليه وأخبرته أنها لم تعرفه، فقال لها صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى». ففي هذا الحديث تبيان على أن مقام الصبر يكون بالترحيب بأقدار الله عند الصدمة الأولى من وقوع تلك المصائب، وإن لم يكن ترحيبا فلا أقل من أن يكون استقبالا لتلك الأقدار بالرضا.

كله خير

وأمر المؤمن عجيب كما وصفه الرسول صلى الله عليه وسلم في كل حالاته، سواء أصابته أقدار تسره أو أقدار تسوءه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له». فيجب أن يكون حال المؤمن متقلبا بين الصبر والشكر، في العسر واليسر، وهذا تحقيق لمقصد الإيمان بالقدر خيره وشره، وتفاعل إيجابي يقصد الخيرية في الحالات جميعها.

العاقبة

وتبقى نظرة الإنسان قاصرة، فهو لا يدرك عواقب الأمور، هل تصير إلى خير أم تؤدي إلى شر؟ فقد يكون الخير مروعا في رحم الشر، وقد يكون شرا ونهايته الخير، والله وحده أعلم بمآلات الأمور وعواقبها، فقد يكون هلاك الإنسان فيما يحب، وتكون نجاته فيما يكره، وهذا مصداق لقول الله تعالى في سورة البقرة: (وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).

سرعة زوال الدنيا

الأمر الآخر الذي يهوّن من المصاعب والمحن ويجعل المؤمن يرحب بأقدار الله هو علمه اليقيني بقصر الدنيا وسرعة زوالها، فالله لم يرضها من أن تكون ثوابا للمؤمن أو عقابا للجاحد، وإنما هي دار اختبار سريعة، وإذا ما تأملنا في زمن الدنيا مقارنة بالزمن عند الله عند خلقه الدنيا لوجدنا الفرق عظيما والبون شاسعا، فقال تعالى في سورة الحج: ( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ) قال المفسرون إن أيام الله هي الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض، فمقدار اليوم الواحد بعدد ألف سنة بحساب البشر، ولو تأملنا عمر الدنيا منذ أن خلق الله السماوات والأرض ومدة مكوث الإنسان في هذه الدنيا لثمانين عاما أو مائة عام لا تعد شيئا في عمر الكون، حتى أن الله تجاوز ذكر فترة مكوث الإنسان في هذه الدنيا في سورة المؤمنون في أطوار خلق الإنسان فبعد أن قال: (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) قال مباشرة:( ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَٰلِكَ لَمَيِّتُونَ)، وهذا دليل على حقارة هذا الوقت الذي لا يكاد يذكر، فهذا أدعى إلى أن يصبر الإنسان في هذا الوقت الضئيل على ما يلاقيه من مصاعب ومحن، لينال الجزاء الأوفر عند الله تعالى، وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الصبر حتى على من ابتلاه الله بالمرض، فتلك امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: «إني أصرع وإني أتكشف، فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك قالت: أصبر، قالت: فإني أتكشف فادع الله أن لا أتكشف فدعا لها». فلأجل أن تحظى بالجنة أمرها أن تصبر لعلمه أن عمر الدنيا سريع وزائل والأحرى بالمؤمن أن يصبر فيه لينال الجزاء الجزيل في الجنة.

الابتلاء للعطاء

ومع أن الأنبياء تم اصطفاؤهم من الله تبارك وتعالى ليبلغوا رسالة الحق إلى الخلق، إلا أنهم لم يسلموا من الابتلاءات، فذاقوا أنواع البلاء وأصنافه، فمنهم من ابتلي بولده، ومنهم من ابتلي بزوجته، ومنهم من ابتلي بإخوانه، ومنهم من ابتلي بأبيه، ومنهم من ابتلي بمرض في جسده، ومنهم من عذب، ومنهم من قتل، وهم صفوة البشر وقد اختارهم الله لدرجة النبوة والرسالة، ولكنه لم يعفهم من الابتلاء، فكيف ببقية البشر هم أولى بالبلاء والمصائب، ولكن مع ذلك يجب على الإنسان أن يسأل الله العافية من البلاء مخافة أن لا يصبر عليه، فنجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه هذا الدعاء: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك».

والله أعلم بخلقه من أنفسهم، وهو يعلم صبرهم وقدرتهم على تحمل المصائب والابتلاءات، فالله يبتلي المؤمن بقدر إيمانه وذلك ليجزل له الثواب والأجر فقال الرسول صلى الله عليه سلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة؛ شدد عليه في البلاء» وهذا من لطف الله الخفي، وحكمته البالغة، وكرمه العظيم، فيجعل البلاء بما يطيق العباد تحمله، ليرفع لهم درجاتهم في الجنة.