No Image
إشراقات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

26 يناير 2023
26 يناير 2023

ما هي البطشة الكبرى في قوله تعالى: «يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ»؟

أكثر المفسرين يذهبون إلى أن المقصود بالبطشة الكبرى يوم بدر، فهذا وعيد للمشركين الذين عاندوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، بأن يجعل الله تعالى عليهم سنين كسني يوسف عليه السلام، فأصابهم القحط، وأجدبت الأرض، وأصابهم عنت شديد فكان الواحد منهم إذا رفع رأسه إلى السماء يرى دخانا شديدا، فربنا تبارك وتعالى يقول: «فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِى السَّمَآءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ» في السورة نفسها، فدعا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتركوا العناد واللمز مدة ثم عادوا إليه، ولهذا هؤلاء الذين يرون هذا الرأي يقولون أن معنى ذلك يتفق مع قوله تبارك وتعالى: «إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ» فعادوا إلى تكذيبهم وإلى طعنهم في رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجاء هذا الوعيد بالبطشة الكبرى التي كانت في يوم بدر، وهو يوم الفرقان حين أذلوا وهزموا ونصر الله تبارك وتعالى الحق وأهله، والمقصود بالبطشة هو الأخذ الشديد بقوة وعنف، وهذا القول ينسب من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-، وقد ذكر فيه أثرا، وخلاصته ما تقدم، وتابعه على ذلك عدد من التابعين، وروي أيضا عن ابن عباس، لكن الأشهر عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- هو أنه يرى أن البطشة الكبرى يقصد بها ما يحصل يوم القيامة، وهذا أيضا قول قال به طائفة من المفسرين، ومال الرازي إليه، وإن كان أكثر المفسرين على القول الأول، والرازي ذكر جملة من الاعتراضات على أن المقصود يوم بدر من نحو اعتراضه على أن الدخان ربنا تبارك وتعالى وصفه بأنه يغشى الناس، وهذه الحالة التي أصابت المشركين جراء القحط، إنما كانت بسبب الضعف والنصب الذي أصابهم، فكانوا إذا رفعوا رؤوسهم خيل إليهم ذلك، فهو يقول بأنه ليس هناك دخان على الحقيقة، وهو أيضا خاص بهم، فلم يكن غاشيا للناس جميعا، واستأنس بالأحاديث التي ورد فيها ذكر أن من أمارات الساعة هي الدخان، والحاصل أن كلام المفسرين يدور حول هذين المعنيين، والمسألة تصلح للمعنيين على الحقيقة والله تعالى أعلم.

ما معنى حديث ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن أحدكم لَيعملُ بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيَسبق عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخُلها، وإن أحدكم لَيعملُ بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخُلُها»؟

الحديث صحيح، وهو عند الشيخين وعند غيرهما، ومعناه كما حرر أهل العلم ممن تناول شرح هذا الحديث النبوي الشريف الجليل على قائله أفضل الصلاة وأزكى السلام، هو أن هؤلاء المقصودين ما كانوا يعملون إخلاصا لله تبارك وتعالى، فمن كان يعمل منهم بعمل أهل الجنة فإن ذلك في ظاهر أمره لا في حقيقته، أي في ظاهر الأمر الذي يراه عليه الناس، وإلا فهو منطو على دسيسة والعياذ بالله، ولبعده عن الإخلاص، ومعاني التدين لله تبارك وتعالى وحسن التعبد، وانطوائه على ما يخرم ظاهر ديانته وعبادته لله تبارك وتعالى من دسيسة سوء، فإنه يرجع إلى هذا الأصل ولا يكتب له التوفيق.

ومعنى سبق الكتاب هو بعيد كل البعد عما يمكن أن يتصوره الناس من معاني الجبر، فإن ذلك إنما هو لعلم الله تبارك وتعالى بما يكون عليه العبد من أحوال، فيكتب الله تبارك وتعالى لسابق علمه بما يصدر من العباد باختيارهم ما يكون منهم، فلا يكون إلا بما يوافق ما علم الله عز وجل من اختيار العباد وكسبهم، وكذا الحال بالنسبة لمن كان في ظاهر حاله ليس بينه وبين النار إلا مقدار ذراع، ثم يكون عمله منجيا له من النار في ما يختم له، فإن هذا أيضا حملوه على أنه مما يظهر للناس لكن لفضل الله تبارك وتعالى ونعمته فإنه يوفق إلى التوبة وإلى العمل الصالح فيختم له، إذن هذا هو المعنى وهو مما يؤكده كتاب الله عز وجل بقوله: «إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ» وقال تعالى: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ» فنجد في كتاب الله عز وجل أن الله تبارك وتعالى تفضلا منه ورحمة بعباده، وعدلا منه جلّ وعلا فإنه يوفق عباده إلى الصالحات، متى ما أخذوا هم بالأسباب واجتهدوا في عبادتهم لله تبارك وتعالى مخلصين له الدين فإنه يوفقهم إلى ذلك، أمّا من كان مشتملا على دسيسة سوء وإن ظهر للناس أنه يأتي الصالحات، وأنه ليس بينه وبين الجنة إلا مقدار ذراع فيسبق عليه الكتاب فإن ذلك إنما هو أيلولة إلى ما كان مشتملا عليه وكشف لحقيقة أمره فإن تدارك نفسه بالتوبة والعودة إلى الله تبارك وتعالى فإن الله تعالى عز وجل يعينه وينصره ويسدده ويهديه، وهذا المعنى الذي تقدم أن طائفة كبيرة من شرّاح الحديث أرشدوه ونبّهوا على خطورة إيهام عامة الناس أنهم مسيرون مجبورون على ما سبق به القلم، وأنّهم لا دخل لهم في ذلك أو ما يمكن أن يفضي إلى تيئيسهم من الصالحات، وأن المقصود من ذلك تطهير الباطن والظاهر فمن كان منطويا على شيء من دسيسة سوء فإن عليه أن يتخلص منها ويتوب إلى ربه تبارك وتعالى وإلا فإنه يختم له بذلك، ومن كان مشتملا على خبيئة خير وعلى هدى من الله تبارك وتعالى فإن عليه أن يأخذ بالأسباب لكي يزكي الله تبارك وتعالى له خصال نفسه وأعماله، فيختم له بالتوبة والإنابة إلى الله تبارك وتعالى. والله تعالى أعلم.

كثيرا ما نسمع عبارة «عيب خلقي» وهي متداولة عند البعض، فإذا وجد عند المولود أدنى تغير عما هو مألوف، مثل طفل مولود بـ 6 أصابع في يده، أو وجد في شفته العليا ما يعرف بالشفة الأرنبية أو مولود في قلبه ثقب بين البطينين، يصفون هذه الحالة بعيب خلقي، ما رأيكم في ذلك؟

لا يظهر لي أي حرج في استعمال هذا الوصف، فنحن نجد أن الفقهاء يتحدثون عن العيوب الخلقية، في عقود النكاح مثلا، والعيوب التي يمكن أن يفسخ بها عقد النكاح، فيذكرون عيوبا خلقية في المرأة أو الرجل، ويقصدون بذلك ما كان على خلاف الوضع السوي، ولا يقصدون من ذلك التنقص، أو اتهام المولى جل وعلا، وإنما يقصدون حكاية ما عليه الحال من مرض أو تشوه أو عيب يمكن أن يصيب أي أحد كان فلا غضاضة في استعمال هذا الوصف، أما إذا اقترن بتحقير أو تنقص، فإنه لهذه النية يكون من السباب والاستهزاء والسخرية، فيأثم المرء من جرّاء هذا النية أما الوصف نفسه فهو وصف سائغ لا حرج في استعماله، فقد استعمله الأئمة والفقهاء دون أي غضاضة ، والله تعالى أعلم.

ما تفسير قوله تعالى: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ» ذكر في مواطن عدة اختلاف، وتفرق أهل الكتاب عقب مجيئهم العلم بغيا بينهم، فمتى يكون الاختلاف محمودا ومتى يكون مذموما؟

أولا ينبغي لنا أن ننتبه أن ما في كتاب الله عز وجل من أن اختلاف أهل الكتاب إنما كان من بعد مجيء العلم لديهم، أن ذلك من باب إقامة الحجة عليهم، ومن باب أنهم أوتوا ما يعينهم على الألفة والاجتماع والاهتداء والسير على طريق الصلاح لكنهم طرحوا العلم فاختلفوا بغيا، فكان اختلافهم من البغي والعدوان فيما بينهم، فالله تبارك برحمته وعدله أقام عليهم الحجة حتى لا يعتذروا أو يحتجوا أنهم لم يصلهم علم ما يحتاجون إليه ولم تقم عليهم الحجة، فما اختلفوا إلا من بعد ما أقام الله عليهم البينات وآتاهم العلم، ولكنهم مع ذلك بغوا واعتدوا فتفرقوا واختلفوا، هذا الذي توجه إليه الآيات الكريمة الواردة في كتاب الله عز وجل في هذا المعنى.

أما ما هو الاختلاف المحمود والمذموم، فليس هو محل البحث في هذه الآيات الكريمة، فمحل البحث أولا هو ما يتعلق بقضية الإرادة الحرة لهذا الإنسان، الاختيار الناشئ عن إرادة الذي يحاسب عليه العبد، يتأكد ببيان أن الله تبارك وتعالى جعل الاختلاف سنة ماضية في هذه الحياة، لأن من شأن هذا الإنسان الذي أوتي الملكات ووهب حرية الإرادة والاختيار أن يختار لنفسه فينشأ بناء على ذلك الاختلاف بين الناس والبشر، فليست الآيات متحدثة عن الاختلاف المحمود أو المذموم، بل هي تتحدث عن عموم الاختلاف محمودا كان أو مذموما لأنها تؤكد معنى أن هذا الإنسان كما قال الله تبارك وتعالى: «لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ»، ولكن هذا رحمة من الله تبارك وتعالى فالذين يأخذون بأسباب الاهتداء فإنهم يسلكون سبل الهداية والصلاح والاستجابة لأمر الله تبارك وتعالى. فكل اختلاف يكون بعيدا عن اتباع الحق فهو اختلاف مذموم، وكل خلاف في دائرة الحق فهو اختلاف محمود، والله تعالى أعلم.