No Image
إشراقات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

19 يناير 2023
19 يناير 2023

وجه إلى العلم الحديث نقد كبير إلى درجة أنه وصل إلى قناعة بأن العلم لا يمكن أن يكون حياديا، ماذا عن هذه العبارة في الثقافة الإسلامية، هل فعلا لا يمكن للعلم أن يكون حياديا على اعتبار أن الإنسان دائما ما يسقط ذاته على الموضوع؟

يحتاج أن نصحح السؤال، إذ كثيرا ما يدور الحديث عن الحياد بمعنى الاعتدال والإنصاف لكن هذا المعنى لم أجد ما يشفع له في قواميس اللغة التي يمكن التعويل عليها، فالحيد في اللغة هو النتوء أو الرأس الذي يكون على هيئة حرف، كأن يكون هذا الحرف في رأس جبل ناتئ، والحيد الميل، فإذا حالت الدابة هذا يعني أنها جانبت الطريق، ولا أظن أن هذا هو المقصود حينما يتحدثون عن الحياد في العلم أو الحياد السياسي، فهم يقصدون عدم التحيز، يقصدون الموقف الوسط العدل الذي يكون في المنتصف، فيقصدون به أن لا يميل إلى جهة دون أخرى، وأن يكون العلم ذاتيا محققا غايات العلم، وما يطلبه الإنسان من كشف المجهول، هذا فقط تصحيح لغوي، فلم أجد القواميس أو بعض معاجم اللغة المعاصرة للأسف أخذت المعنى الشائع عند الناس واعتمدته، المقصود من ذلك أن يكون العلم مجردًا عن الأهواء والشهوات والرغبات موصلا إلى الحقيقة، بهذا المعنى هذه هي وظيفة العلم، حتى تعريف العلم عند علماء الإسلام والعربية يدور حول معاني إدراك الشيء على ما هو عليه، وأضاف البعض قيد: إدراكا قطعيا جازما، فالأصل فيه أن يكون نافيا للجهل فلذلك عرفه بعضهم بأنه هو ما يقابل الجهل، فهو وسيلة لنفي الجهل، لكنه ليس السبيل الوحيد للمعرفة عند هذا الانسان، وحقائق العلم أي العلم الموافق، والإدراك الموافق للواقع على ما هو عليه يقينا جازما، ينبغي أن يدرك الإنسان وظيفة العلم، وأن يخضع لها فيما بعد تصوراته، في المجالات التي يبحث فيها العلم، وهناك تقعيد يرجع إلى تعريف العلم، وإلى وظيفة العلم وإلى دائرة العلم وحدوده، ثم في توجيه العلم، أي فيما يستعمل له، فالعلم محدود لا ينظر في الغايات والمآلات، ولا يفسر البدايات، يعني أنه لا يجيب عن سبب النشأة والبدايات المتعلقة بالعلل، ولا يفسر الغايات، ولا يجيب عنها، ولا يهتم بها، وإنما يهتم بكشف الظواهر، وهذا التعريف الغربي بأنه يكشف قوانين وسنن ونواميس الطبيعة والحياة، فلا يصح أن تنزل النظريات التي لم تثبت بعد، ولم تطابق الواقع مطابقة جازمة قطعية، فلا يصح أن يجري عليها ما يجرى على العلم نفسه.

والخلاف في أن العلم في الرؤية الإسلامية القرآنية ليس هو السبيل الوحيد للمعرفة، فهو وسيلة من وسائل المعرفة، بهذه الكيفية نعم لا بد أن يكون العلم عدلا وسطا كاشفا للحقائق، نافيا للجهل، معينا على الرؤية الكونية الكبرى المتعلقة بالمبدأ والمنتهى والعلل والحكم، الذي حصل في هذا النهج المؤدلج بمعى أن يتخذ العلم معتقدا دينيا جيدا، وإن لم يصرحوا أنه دين، ولا عندما يتحدثون عن نسق من التصورات الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والجمالية، هؤلاء في الحقيقة يتحدثون عن معتقد، وعن إيمان يبلغونه درجة الدين، بل يجعلونه حاكما على الدين نفسه، وهذا فارق جوهري في أن العلم ما عاد اليوم عند المعاصرين ومن ينظرون الإيمان بالعلم وحده، ما عاد عدلا وسطا؛ لأنهم حملوه ما لا يحتمل، فأقحموه في دوائر لا يستطيع الجواب عنها وجعلوه المسيطر، بحيث إنه لا يلتفت إلى شيء آخر فتسمع أحدهم، إما أن يكون مغررا به أو أنه يعادي الدين، فيقول أنا لا أؤمن إلا بالعلم وحده، ولو دخلت معه في أبسط حوارات المنطق، لوجدت أنه صفر منها؛ لأن هذه المقولة نفسها ليست مقولة علمية، كيف يمكن له أن يثبتها، فهم يجعلون العلم مقدسا، وهذه العبارة كأنها المقدمة الوجودية لادعاء بعض الحقائق العلمية، فيوهمون بأن العلم هو المصدر الوحيد للمعرفة، وبالمناسبة هذه ليست دعوى جديدة وإنما هي دعوى قديمة، ونضرب هاهنا مثالا، لما وصل الإنسان إلى القمر، وتمكن من سبر أغوار الفضاء، ثار الملاحدة وحكوا شبهة، قالوا فيها بأننا وصلنا إلى القمر فلم نجد الإله، وكان من جملة من رد عليهم فيلسوف كنسي إنجليزي، اسمه سي أس لويس، قال لهذا المدعي: هل قرأت شيئا من مسرحيات شكسبير، قال: نعم، قال وهل شاهدتها في أداء مسرحي، قال: نعم، قال: هل تشك في أن حرفا واحدا ليس من شكسبير؟ قال: أبدا، قال وهل كان شكسبير في المسرحية: فأفحم هذا الملحد، فقال سي أس لويس: هذا الكون كله من صنع الإله وكل حرف فيه هو من صنع الإله، فأنت ترى آثاره وترى منتجه النهائي لكنه ليس شخصية في هذه المسرحية، ليس بشخصية ما تراه وتشاهده.

يستدل أصحاب نظرية التطور بأدلة متعددة على إثباتها، ويقولون بأن نسبة 98 في المائة من علماء الطبيعة هم مقتنعون بصحتها لموافقتها للعلم، فما مدى صحة هذه الدعوى؟

هذه النظرية جعلت المركوب الذي يقتحمون به لجة ساحات المعرفة، ويقصون بها من يخالفهم، ويعلون شأن من يتقرب إليهم بالتصديق بها والسير في ركابها، ولذلك أقحمت في كل شيء، حتى في غير ما ادعاه داروين أصبح يفسر بها كل شيء؛ حتى أنهم أصبحوا يفسرون بها إرادة هذا الإنسان واختياره، فأبعدوا كل العوامل التي يمكن أن تؤثر في هذا الإنسان، من العوامل النفسية والاجتماعية والتربوية والتعليمية وغيرها من العوامل التي تعينه على أن يكون حرا مريدا مختارا، وجعلوا هذا الإنسان وكأنه خيط معلق في مهب الريح تحركه كيفما شاءت، ولذلك فإنهم أسقطوا بها الأخلاق، من حيث التأصيل الفلسفي أو من حيث الجدل الدائر حولها، فإن هذا الإنسان لا يملك تصرفاته؛ لأنها ناشئة عن جينات، فتطورت تطورا أعمى بفعل الانتخاب الطبيعي غير الموجه، فليس هناك، كما يقال تصميم ذكي، وليس هناك خالق حكيم مريد لهذا الإنسان جعل فيه الإرادة والحرة والاختيار في الأفعال والأعمال بحيث يكون مسؤولا عنها، ويترتب على ذلك الثواب والعقاب، وهذا ما نشهده اليوم، لتأكيد ما دار حوله هذا الموضوع من أن هؤلاء المعاصرين، وفي صدارتهم الملاحدة فإنهم أخرجوا الأخلاق من دائرة هذا الإنسان، فما عاد هناك شيء اسمه أخلاق، حتى لا يحتج عليهم أن هناك أخلاقًا ذاتيةً، وأنها يكاد يقر بها البشر جميعا، كمنع العدوان على الأطفال على سبيل المثال، أو الاغتصاب، ومنع القتل للنفس البريئة حتى ولو أذن الطرف الآخر بذلك، فأبشع الصور التي يمكن أن تكون الحد الأدنى التي يمكن أن يتفق عليها البشر أخرجوها هم من هذه الدائرة، ولذلك فسروا الظواهر التي حصلت في التاريخ، ويقولون بأن ظواهر التاريخ يمكن أن تفسر تفسيرا علميا، فلا لوم على السفاحين في التاريخ البشري الذين قتلوا ملايين البشر؛ لأن جيناتهم هي التي دفعتهم إلى ذلك، والغريب أنهم يقولون هذا الكلام ويطلبون منا أن نصدقه، فإن كنا نحن لا نملك اختيارا، وليست لنا إرادة ونجد أنفسنا غير مصدقين لهذا الزيف، فكيف تطالبوننا أن نصدق، كيف تكتبون هذه المؤلفات، وتنشرون هذه المحاضرات وتدخلون في هذه المناظرات ونحاسب عليها.

أما فيما يتعلق بالنظرية، فهناك موقع علمي متخصص يرصد العلماء الذين يعارضون نظرية داروين، اسم الموقع «الانشقاق العلمي عن الداروينية» لا يقبل إلا من كان متخصصا ويحمل شهادة الدكتوراة، يقولون في الموقع وفي المواقع العلمية التي تنقل عنه؛ لأنه لا بد أن يسجل مقطعا مصورا، أو أن يكتب لماذا يعارض هذه النظرية، ولماذا ينشق عن الإيمان بهذه النظرية الداروينية، فيذكر الأسباب العلمية التي يثبت بها خطأ الداروينية، أو الخطأ المنهجي في هذه النظرية نفسها، والذين سجلوا في الموقع يزيدون عن الألف، من العلماء المتخصصين الذين هم حملة الدكتوراة من مختلف بلدان العالم، إلى حد أنك بإمكانك أن تضغط على علم الدولة فيظهر العلماء من تلك الدولة الذين يعارضون هذه النظرية، وأغلبيتها غير مسلمين، ومع ذلك هؤلاء يقولون من خلال تحليل المواقع العلمية أن الأعداد تتزايد يوما بعد يوم، على الرغم من الإقصاء من الدوائر العلمية والأكاديمية والوظيفية التي يواجهها من يمكن أن ينبس ببنت شفة معارضا للنظرية الداروينية، فيقولون بأن هناك أضعاف هؤلاء الذين تجرؤا وسجلوا في هذا الموقع؛ لأنهم يعلمون بأن هناك إقصاء سوف يصيبهم، ولا يحظون بوظائف، أو حتى بترقيات أكاديمية إن كانوا في مؤسسات وظيفية، ولا تنشر لهم بحوث، وليس لهم ظهور إعلامي، ورغم ذلك فالأعداد في تزايد، ويقولون كم وراء هؤلاء من طلبة الدراسات العليا، ولاحظوا مع هذا أيضا ازديادا في النشر العلمي لهؤلاء العلماء الذين سجلوا، وترصد هذا الموقع جامعات أكاديمية، بأن صوت هؤلاء يجب أن يسمع؛ لأن عندهم من الاعتراضات والأدلة التي جلبت لدحض النظرية، ما لا يمكن دفعه، وهي جامعات كبيرة يمكن الرجوع إليها بسهولة، والروابط موجودة حتى في الموقع السابق الذي ذكرته سابقا.

وهذا التزييف يراد به فقط حشد أو إيهام الناس والأصل فيها حتى لو قلنا بأنها مسألة علمية لماذا تحمل كل هذه النتائج والآثار، ولماذا تجعل الفيصل في القبول العلمي والأكاديمي، هذه تشبه قضية سطحية الأرض هي فقط مجرد شماعة، فليس من العمق الظن بأن خلافا بين العلم والكنيسة إنما نشأ بسبب تبني الكنيسة لسطحية الأرض، وإنما الخلاف بين إيمان وكفر، أريد به أن يظهر حتى يكسب تأييدا شعبيا، وأرادوا أن يظهر بلبوس علمي، فوجدوا من هذه القضية شماعة يحشدون بها عواطف الناس، ويضللون بها الرأي العام، ويصرفون بها الأنظار عن حقيقة عداوتهم للتلقي من الوحي، وأن هناك رؤية كونية يؤسسها الدين، تتعلق بالغايات والحكم والعلل والمبدأ والمنتهى، وأن هناك التزاما أخلاقيا لهذا الإنسان وأن هناك علاقات ينظمها الدين بين الإنسان والإنسان، وبين الإنسان وهذا الكون بكل ما فيه من مفردات، فيصرف النظر بمثل هذه الدعاوى.