No Image
إشراقات

فتاوى يجيب عنها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان

12 يناير 2023
12 يناير 2023

يرد استخدام العلم في القرآن الكريم كثيرا ويدعو الله تعالى إلى ضرورة الاحتكام إليه وإلى العلماء: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» ما سر هذا الاهتمام بالعلم وكيف يرد تعريفه في القرآن الكريم، وما ضرورة أن نلجأ فيه إلى العلماء لنعرف الحقائق التي نجهلها؟

إن العلم هو الطريق الموصل إلى التعرف على الحقائق التي ينفى بها الجهل، باختصار شديد، هذا الذي اتفق عليه الناس في فهمهم لمعنى العلم، وسنأتي إلى التعريفات الاصطلاحية للعلم، لكن أهمية العلم لا تخفى على أحد، من أجل ذلك اعتنى كتاب الله عز وجل بالعلم عناية كبيرة، وقال: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لَا يَعْلَمُونَ» وقال: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» ودعا إلى التفكر والنظر، وأثنى على أهل العلم بما لا يخفى على أي أحد يطالع كتاب الله عز وجل، بل بلغ من شأن العلم أن أول ما أوحاه الله تبارك وتعالى إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قوله: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» وتكرر ذكر العلم وأدواته كثيرا في كتاب الله عز وجل ويكفينا منها أن الله تبارك وتعالى أقسم بالقلم، وبما يسطره من يستعمل القلم حينما قال: «ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ» إلى آخر ما ورد في كتاب الله عز وجل.

ثم إذا نظرنا في سنة رسول الله عز وجل تأكد لنا أن هذا الدين هو دين علم، فقد اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والتعليم وبنشر العلم وبتأسيس حضارة هذا الدين شريعة وخلقا وعلما ومعارف في كل وجوه الحياة جعلها صلى الله عليه وسلم قائمة على العلم، ما العلم الذي نتحدث عنه، فالعلم مصطلح اختلف في تعريفه التعريف الجامع المانع، حتى أن كثيرا من علماء اللغة يقولون بأنه لا حد للعلم، بمعنى لا تعريف للعلم، فلا يمكن تعريفه واختلفوا في السبب لما لا يمكن تعريفه وجعل حد جامع مانع له، فانقسموا إلى فريقين فريق يقول بأن ذلك لظهور العلم، وأنه مدرك معلوم فهو بين ظاهر لا يحتاج إلى تعريف، وفريق آخر يقول إنما كان تعذر وضع حد للعلم لصعوبته وعسره، طرفان نقيضان، ولذلك أوصل بعضهم حد العلم أي التعريفات التي وردت في العلم إلى أكثر من ألف تعريف، وحينما ينظر القارئ في هذه التعريفات سيجد بأنها متقاربة، وأن بعضها لا شك أجود من بعض، وأقرب هذه التعريفات المنتشرة عند أهل العلم أنه إدراك الشيء بحقيقته أضاف بعضهم إدراكا جازما، ولذلك نجد عند علماء اللغة في عدد من معاجم اللغة بأن العلم هو الإدراك الجازم المطابق للواقع، وهذا لا يختلف عمن يقوله بأنه إدراك الشيء بحقيقته، وبعضهم يضيف «إدراكا جازما»، وبعضهم يقول: «هو تصور الشيء على ما هو عليه»، فيستبدل بكلمة الإدراك التصور، وبعضهم يقول هو تصور المجهول تصورا يقرب حقيقته إلى النفس، هذه كلها تعريفات تدور حول قدر مشترك من المعاني يدور حول إدراك حقيقة أمر مجهول على النحو الموافق لحقيقته إدراكا مطابقا للواقع.

وإذا أردنا أن نستطرد في الاستعمال القرآني نجد أن الله تبارك وتعالى ينعى على أولئك الذين لا يستعملون الملكات التي وهبهم الله تبارك وتعالى إياها في الوصول إلى حقائق العلم، وباللغة المعاصرة في البناء المعرفي المطلوب منهم، فالله عز وجل يقول: «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا» هذه الآية الكريمة هي في صلب ما نتحدث عنه لأن هؤلاء من قوم موسى رأوا الآية التي أتاهم بها موسى عليه السلام وعاينوها ولكنهم لمزوه بالسحر، ويكشف لنا القرآن الكريم أنهم ما فعلوه إلا جحودا واستكبارا وظلما وعلوا، وإلا فإن نفوسهم متيقنة من حقيقة الإعجاز في ما آتاهم به موسى عليه السلام وأنه من عند الله تبارك وتعالى لا طالقة للبشر به، وهذه الأدلجة منذ زمن موسى عليه السلام وبعض الكهنة ومن يدعي المعرفة ويتسلط على عباد الله عز وجل، فإنه ينحو بالناس إلى مهاوي الجهل، رغم إيقان أنفسهم بالحقيقة إلا أنه يستعلي ويستكبر على هذه الحقيقة، فيتخذها معتقدا نسقا فكريا اجتماعيا سياسيا تاريخيا ثقافيا ليلوي به حقائق العلم التي تيقن بها، فيجحد بها ويضل بها الناس، فالظاهرة قديمة قدم الدعاة إلى الله تبارك وتعالى من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

كثير ما يستخدم العلم ويدعى إلى الاحتكام إليه وأنه هو الفيصل في مراجعة العقائد والأحكام، وأنه هو الذي يبنى عليه اليقين، هل العلم المستخدم الآن في مصطلحات العصر الحديث هو العلم الذي تتحدثون عنه؟

العلم بالتعريف المتقدم وهو العلم الوارد في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من أعلى مراتب المعرفة، ولذلك يوصف به الله تبارك وتعالى، وعلمه جل وعلا علم مطلق كامل محيط بكل شيء لكن لأن المعرفة إنما تتحصل بالاكتساب والنظر والتدبر، فالمعرفة إدراك بنظر وتفكر، فهي أخص من العلم لا يوصف بها ربنا تبارك وتعالى، لكن في الاصطلاح المعاصر أصبحت المعرفة تطلق على مصادر العلم، تطلق على الدلائل والبراهين التي يتوصل بها هذا الإنسان إلى نفي الجهل، لأن نقيض العلم الجهل، فهذه الأدلة والبراهين، متنوعة متعددة، منها ما هو دليل فطرة من البدهيات، ومنها ما هو دليل عقلي ضروري، ومنها ما يحصل بالاكتساب وهو العلم النظري القائم على البحث والتجربة، وقد حصر الاستعمال المعاصر للعلم على ما يحصل بالتجربة والبحث والدراسة مما تدركه الحواس، حصر معنى العلم في واقعنا المعاصر في هذا النوع فقط، فينبغي لنا أن ننتبه إلى هذا المعنى، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أنه جعل عند أرباب هذا المسلك المغالي من الملاحدة ومن المبتعدين عن مراشد وحي الله تبارك وتعالى وعن دينه جل وعلا، جعل المصدر الوحيد أو أنهم رأوا أن هذه مكابرة فيها من الغلو والشطط ما لا يمكن إخفاؤه عن الناس، فانتقلوا إلى ما هو أقل من هذه المرتبة وقالوا بأنه هناك مصادر أخرى لكن العلم التجريبي هو في صدارتها ولا تدانيه سائر أنواع الحجج والبراهين، ما الذي نجده في كتاب الله عز وجل حتى يبقى الموضوع متماسكا عند المتلقي، نجد أن مثل هذه الأطروحات تناولها كتاب الله عز وجل، ونعى على أمثال هؤلاء الذين يؤطرون مصادر التعلم فقال: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَدِلُ فِى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَبٍ مُّنِيرٍ» هذه المعطوفات متغايرة لا كما ذكره بعض المفسرين، فكل مصدر من مصادر التعلم مقصودة يراد بها نوع من أنواع الحجج والبراهين، وتكررت في موضعين في كتاب الله عز وجل.

فالعلم الذي يدرك بالحواس وهو العلم التجريبي القائم على البحث والنظر والدراسة والتأمل والبحث، ثم الوصول إلى الحقائق، هذا هو النوع الأول، فهؤلاء يجادلون دونما دليل، ودون اتباع للمنهج العلمي الذي يشير إليه قوله تبارك وتعالى:: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَدِلُ فِى للَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ»، والهدى يراد به ملكات العقل، والعقل أيضا في قواميس اللغة يراد به الهيئة أو القوة أو الملكة التي تمكن الإنسان من إدراك المعقولات ومن التمييز بين الخير والشر والحسن والقبيح، ولذلك هو من الهدى لأنه بالهدى يستبين الحق والباطل والخير والشر والحسن والقبيح، والعتاب لهم دليل على أن ملكة الاهتداء مغروسة فيهم، وهذا ما فعله صاحب التحرير والتنوير وفعله الرازي قبله وأطال النفس فيه أن المقصود بالهدى هنا ما يتحصل إليه بالعقل من وسائل الاهتداء إلى الخير والصلاح والحق ومما يمكن أن يدركه العقل من المدركات المعقولات، إذن هذا دليل العقل، ويشمل بعض الضرورات ولذلك يعبر عنه بعض المناطقة وعلماء الفلسفة بأن العقل هو العلم الضروري كعلم الإنسان بأنه موجود، واستحالة اجتماع النقائض، وبأن الكل أكبر من الجزء، هذه تدرك بالعقل، وهي في كثير من دوائر العلم الغربية اليوم أدرجوها في علم المنطق أو الفلسفة.

ثم قال ربنا جل وعلا:«وَلَا كِتَبٍ مُّنِيرٍ» فالمقصود بالكتاب المنير هو بقايا مواريث النبوة مما أوحاه الله تبارك وتعالى إلى الأنبياء والرسل وهذا مما ينبغي للمسلم أن يستصحبه، أن في صدارة مصادر التعلم والتلقي والمعرفة عنده وحي الله تبارك وتعالى ليدرك به ما يتعلق بعالم الغيب، وما يتعلق بالمنقلب والمآل الذي يصير إليه وما يحتاج إليه من التزام أخلاقي ومن تعامل مع نواميس هذه الحياة تشريعا وحقوقا وواجبات فإن ذلك لا يتحصل إلا بالوحي.

هناك نوع آخر من العلم وهو التصديق بالأخبار وفحصها، فالله تبارك وتعالى أيضا نعى على المشركين في موضعين أنهم يعطلون ملكاتهم ليضلوا في دائرة الجهل فيقول: «مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَوَتِ وَالْأَرْضِ» إذ لا يتحصل إلى إدراك حقيقة بدء الخلق إلا بالنظر في الآثار لا بالنظر في الحدث نفسه، وهذا جانب استنباطي قائم على تتبع الأدلة وفحص الأخبار، والنظر في القرائن والعلامات والإشارات التي توصل إلى الحقائق، ولذلك لما نسب المشركون إلى الله تبارك وتعالى جل وعلا، وتنزه عما نسبوه إليه بأن الملائكة بنات الله، فقال: «وَجَعَلُواْ الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَدُ الرَّحْمَنِ إِنَثًا أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ» لأن هذا أمر لا يمكن أن يدرك، فلو تتبعوا الأدلة لاستحال أن يصلوا إلى هذا الخطأ الذي وقعوا فيه يعني أنه لا مناص من إقامة الحجة عليهم، لأنهم لم يشهدوا خلق الملائكة.