إشراقات

د.علي الجهضمي: معطيات الاقتصاد الوضعي ينبغي الأخذ بها بما لا يتعارض مع الإسلام وتعاليمه

21 سبتمبر 2023
«المورد في الاقتصاد الإسلامي» تناول الاستهلاك والإنتاج والتوزيع والتبادل
21 سبتمبر 2023

الدعاية الإعلامية والحالة النفسية أهم العوامل التي ترسّخ ثقافة الاستهلاك -

الشرع الحنيف جاء ليحقق سعادة الدارين ويصلح دين الناس ودنياهم -

بعد صدور كتابه الجديد «المورد في الاقتصاد الإسلامي» الذي ضمّنه مجموعة من الموضوعات المهمة فقد أورد في بداية الكتاب مقدمات في التعريف بالمصطلحات الاقتصادية، كما تناول السياسة الشرعية والاقتصاد، وكذلك المشكلة الاقتصادية من منظور إسلامي، وأورد أيضا مداخلة تحليلية للنظرية الاقتصادية.

كما تناول في فصلين من الكتاب موضوع الاستهلاك ودالته من منظور إسلامي، وأثر البروباجندا، والاقتصاد السلوكي في الاستهلاك، وتعرض إلى موضوعات أخرى تختص بالإنتاج ودالته من منظور إسلامي، وأثر الاحتكار، والفساد في الإنتاج، والتوزيع والتبادل وضوابطهما، وقدّم نظرة إسلامية في الأزمة المالية المعاصرة.

ونحن في هذا الحوار مع المؤلف الدكتور علي بن سليمان الجهضمي وهو محاضر بكلية العلوم الشرعية وعضو هيئة الرقابة الشرعية ببنك نزوى، حاولنا أن نستجلي هذا الكتاب من خلال الرؤية التي يقدمها، وما هو منهج التأليف الذي اتبعه، وما هي أبرز الأفكار التي تمثل المحتوى، كما ناقشنا الثقافة الاستهلاكية والعوامل التي ساعدت في تكريس هذه الثقافة.

كيف انقدحت في ذهنك فكرة كتاب «المورد في الاقتصاد الإسلامي»؟

أصل فكرة الكتاب مادة علمية أدرّسها لطلاب البكالوريوس في مادة الاقتصاد الإسلامي بكلية العلوم الشرعية، ولما رأيت أهمية ترتيب موضوعات مادة الاقتصاد الإسلامي كي يسهل استيعابها، فضلت أن أجمع تلك الموضوعات في كتاب متكامل، مع إضافة بعض الفصول المقتبسة من بحث الدكتوراة الذي كان بعنوان: أثر السياسة الشرعية في عمليات التمويل في المصارف الإسلامية في سلطنة عمان - دراسة فقهية تحليلية.

ومما حفزني لتصنيف الكتاب وجود كثير من التصورات الخاطئة التي تتعلق بالاقتصاد الإسلامي، فهناك خلط كبير بين الجانب المذهبي والجانب الفني، وقد سبب ذلك تبني بعض الأحكام القاصرة والمفاهيم المغلوطة فيما يختص بالاقتصاد الإسلامي وفلسفته، فهناك من يحصره في الصيرفة الإسلامية، وهناك من لا يميز بين الجانب الفني المحايد الذي لا يختلف فيه المذهب الاقتصادي الإسلامي عن غيره من المذاهب الاقتصادية الوضعية لارتباطه بأدوات محايدة، وبين الجانب المذهبي الذي يختلف اختلافا كليا في فلسفته، ونظرة الإنسان إلى المال، والمبادئ التي تنظم علاقة الإنسان بالمال.

فالنظرة الإسلامية إلى المال في جوهرها منبثقة من الإيمان بالله تعالى الذي استخلف الإنسان في الأرض.

جاء في كتاب المورد في الاقتصاد الإسلامي: ... فمن عوامل إصلاح الفكر الاقتصادي إدراك المسلم لمسؤوليته وواجبه في عمارة الأرض وإصلاحها: وذلك ضمن مبدأ الاستخلاف في الأرض الذي كلفه الله تعالى به عباده في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات، الآية 56، ومن مقتضى العبادة أن يعمر الإنسان الأرض ويحرص على إصلاحها، يقول الله تعالى: (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ) سورة هود، الآية 61.

وقوله تعالى: «واستعمركم»، جاء على لفظ استفعل الدال على الطلب، أي: طلب منكم عمارتها، وهذا الرأي هو الذي صدّر به الإمام الزمخشري في الكشاف، فهو دليل على وجوب عمارة الأرض، وتنميتها، وحسن استغلال مواردها.

ومن المفسرين من ذكر أن عمارة الأرض قد تأخذ الأحكام الخمسة، الوجوب، والاستحباب، والإباحة، والكراهة، والحرمة بحسب اختلاف آثار تلك العمارة، والغرض منها، واستفادة البشر منها، يقول الإمام القطب في «تيسير التفسير» في تفسير قوله تعالى: «واستعمركم فيها» بعد أن ذكر الرأي الأول أن استفعل هنا للتصيير أي جعلكم عامرين، ذكر الوجه الآخر فقال: ... أو للطلب أي: طلبكم أن تعمروا الأرض بالسكنى، والبنيان، والحرث والإسلام، والطلب من الله تعالى على ظاهره إلا أن الله قادر غير محتاج قاهر غير عاجز، أَو بمعنى الأمر والإِقدار أَي: أَوجب عليكم عمارتها وأَقدركم عليها ونهاكم عن إِخرابها بإِهمالها وبعمل المعاصي، والبناءُ واجب كسد الثغور والقناطر على العيون المهلكة وبناء المسجد الجامع في المصر، والمندوب كالقنطرة على غير الماءِ، والمدارس والرباط تيسيرا للناس، ومباح كبيوت السكنى، ومكروه كالزيادة على الحاجة، ومزيد التجويد، ومحرم كالبناءِ بالحرام أَو في الحرام وبالمبالغة في التجويد والتذهيب والتفضيض... .

ما الرؤية التي يقدمها الكتاب؟

سعادة الإنسان وانتظام حياته المادية، ونجاح الاقتصاد إنما يكون بتطبيق شرع الله في تنظيم علاقته بالمال، أخذا وعطاء وتنمية، وعندما نتحدث عن النجاح الاقتصادي فنحن نستحضر النجاح الحقيقي الحضاري الذي يضفي الروح على الاقتصاد، وتزدان بحلية الأخلاق حيث يصير المال وسيلة للرفاه والأمان النفسي وليس غاية يسعى إليها دون التفات إلى إنسانية أو أخلاق، وهذا يتحقق باتباع الهدي الرباني، مع الأخذ بالأسباب المادية بطريقة لا تتعارض مع الإسلام، جاء في كتاب المورد: ... إن من صميم عقيدة المسلم أن يؤمن بأن شرع الله تعالى إنما جاء ليسعد الإنسان، ويحقق معنى العبودية التي خلق الإنسان من أجلها؛ يقول الله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) سورة الواقعة (56-58)، وقد جاءت الشريعة الإسلامية رحمة للعالمين: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) سورة المؤمنون (107).

وفي هذه الآية الكريمة جاء النفي بـ«ما»، والاستثناء بـ«إلا»، وهو من أساليب الحصر فقد حصرت الغاية من الرسالة المباركة في الرحمة التي أرادها الله تعالى للعالمين، كما أن الرحمة لم تقتصر على البشر فحسب بل بين الله تعالى أن الرحمة للعالمين، أي: للبشر وغيرهم من المخلوقات، فالعالمون جمع عالم وهو كل ما كان علامة ودليلا على وجود الله تعالى كما صحح ذلك سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله في جواهر التفسير حيث قال: ... وأصح هذه الأقوال القول الأول لأن أحسن ما فسر به القرآن القرآن نفسه؛ والله تعالى يقول: «قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما..» سورة الشعراء (23-24)... .

ويقول سبحانه وتعالى: (طه (1) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (3) تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى) سورة طه (1-4).

وقد وعد الله سبحانه وتعالى من التزم الإيمان الصادق والعمل الصالح بالحياة الطيبة في الدنيا والنجاة في الآخرة يقول عز من قائل: (منْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) سورة النحل (97)، فالشرع الحنيف جاء ليحقق سعادة الدارين وليصلح دين الناس ودنياهم فاتباعهم لشرع الله تعالى إنما هو صلاح لدنياهم وعقباهم، وهذه العقيدة ينبغي أن تكون راسخة في قلب المؤمن وأن يكون عاملا بمقتضاها مستشعرا حقيقتها، وإذا رسخت هذه العقيدة كان ذلك أدعى للاستسلام لأمر الله تعالى والغوص في حِكَمِ الشريعة وأحكامها من منطلق يقين الإنسان أن الشرع الحنيف إنما جُعِلَ لإسعاد البشر، وأن الأحكام الشرعية شرعها الخالق المصور الذي يعلم الأصلح لعباده (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) سورة الملك (14).

على أن المؤمن مطالب في الأصل باتباع شرع الله تعالى والاستسلام لأمره والانقياد لطاعته عَلِمَ الحكمة من الأمر أم لم يعلمها، يقول الله تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا) سورة الأحزاب (36)، ويقول سبحانه: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) سورة النور (5)، ويقول عز من قائل: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) سورة النساء (56).

ولا مانع من تحري الحِكَمِ والسعي لمعرفة المقاصد التي تتضمنها روح الشريعة الغراء؛ فذلك معين على استلهام العبر والغايات النبيلة للشريعة الإسلامية، ويبين الإعجاز التشريعي العظيم وعمق المقاصد الإسلامية في تحقيق مصالح البشر وما يخدم دنياهم ويعمر حياتهم (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) سورة القصص (77).

إن النظرة النمطية الضيقة لدى الكثير من الناس إلى الدين الإسلامي هي نظرة سطحية قاصرة لا تنفذ إلى إدراك روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها وغاياتها النبيلة؛ فالإسلام ليس مجرد عبادات محصورة بزمان أو مكان، وليس طقوسا محددة بزمن معين لا يتجاوز أثرها ذلك الإطار الزمني أو المحيط المكاني، ومع الأسف نجد كثيرا منهم لا يتصورون أن الأحكام الشرعية شملت كل نواحي الحياة العملية للإنسان مع أن الله تعالى الذي وسع كل شيء علما قد أوسع كل حادثة حكما، يقول سبحانه:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) سورة النحل (89).

إن مبدأ فصل الدين عن الحياة العامة إنما يهدف إلى إفراغ الدين من مضمونه، وهذا ما يشير إليه الأستاذ سيد قطب عندما تحدث عن الإسلام الذي يريده الاستعمار وسماه (الإسلام الأمريكاني) الذي يستفتى في نواقض الوضوء ولا يستفتى في الأوضاع الاجتماعية أو الاقتصادية أو الوضع المالي للمسلمين.

ما المنهج الذي اتبعته في تأليف هذا الكتاب؟

اعتمدت على تأصيل الاقتصاد تأصيلا شرعيا، وذلك من خلال تتبع الموجهات الإسلامية للأنشطة الاقتصادية التي هي موضوع علم الاقتصاد، وذلك بعد التمهيد بتعريفات لمصطلحات علم الاقتصاد، والتعريف بالسياسة الشرعية، وتأصيلها وبيان علاقتها بموضوعات علم الاقتصاد.

ثم تناول الكتاب أهم الأنشطة الاقتصادية وهي الاستهلاك، والإنتاج والتوزيع والتبادل.

وعند الحديث عن كل نشاط من هذه الأنشطة تناول الكتاب الموجهات الإسلامية لكل نشاط، وتطرق الكتاب لبعض المؤثرات التي تؤثر في سلوك المستهلك وقراره، وتوجهاته، ومن أبرز المؤثرات التي تؤثر في قرار المستهلك المؤثر الخارجي (الدعاية الإعلامية)، والمؤثرات النفسية التي تدرس في علم الاقتصاد السلوكي.

هل هنالك أصول وجدتها في الاقتصاد الإسلامي انبنت عليها نظريات حديثة في علم الاقتصاد؟

ينبغي التمييز في علم الاقتصاد بين المصطلحات فهناك النظام الاقتصادي، وهناك المذهب الاقتصادي جاء في كتاب المورد: النظام الاقتصادي هو: الطريقة أو الأسلوب الذي يُطَبَّق في المجتمع في إدارة الثروات الاقتصادية وتنظيم التفاعل بين الأنشطة الاقتصادية بناء على الآليات التي يحددها المذهب الاقتصادي، أو هو الهيكل الاقتصادي القائم في المجتمع المنظم للأنشطة الاقتصادية المتعلقة بالثروات من منطلق المذهب الاقتصادي الموجِّه.

والنظام الاقتصادي يتأثر بالمذهب الاقتصادي الذي يوجه الاقتصاد بآيات تفاعل الأنشطة الاقتصادية، إلا أنه لا يرتبط دائما باختيار المجتمع وتفضيله.

وجاء في تعريف المذهب الاقتصادي: ... يقصد بالمذهب الاقتصادي مجموعة والمبادئ المنطلقات العَقَدِيَّة التي تُنَظِّم إدارة الثروات في المجتمع وتفاعل الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بتلك الثروات.

وبناء على اختلاف تلك المنطلقات تختلف المعايير التي ينظم بها المجتمع تفاعل الأنشطة، والقوانين الحاكمة المنظمة، وكل مذهب من المذاهب الاقتصادية يدعي أنه يحقق العدالة الاجتماعية، وأنه يوصل المجتمع إلى الأهداف الاقتصادية العامة كالكفاءة الفنية والتخصصية والنمو الاقتصادي والاستقرار الاقتصادي وغير ذلك.

... أما المذهب الاقتصادي الإسلامي فهو المذهب الاقتصادي الذي يدير ثروات المجتمع، وينظم الأنشطة الاقتصادية، وتفاعل الناس، بناء على أحكام الشريعة الإسلامية، فهو يستمد الحكم بين الناس وتحقيق العدالة من المنهج الرباني الذي جاء به القرآن الكريم، والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ويتميز بفلسفة مخالفة للفلسفات الوضعية فهو ينطق من مبادئ كلية عظمى كالاستخلاف في الأرض وتحقيق مبدأ العبودية لله تعالى.

فعلى سبيل المثال: عند الحديث عن موجهات الإنتاج في الاقتصاد جاء في الكتاب: هناك جانبان لتوجيه الإنتاج إسلاميًا وهما: الجانب المذهبي، والجانب الفني، فالجانب المذهبي هو الذي يوجه الإنتاج من منظور إسلامي؛ وذلك من منطلق تعاليم الإسلام، والأسس التي قام عليها الاقتصاد الإسلامي أما الجانب الفني فهو الجانب الذي يعنى بحسن إدارة المؤسسة الإنتاجية من أجل تحقيق الأرباح وذلك بالنظر إلى مقدمات فنية لا يختلف فيها الاقتصاد الإسلامي عن الاقتصاد الوضعي ويظهر ذلك عند الحديث عن دالة الإنتاج وأثر الموجهات فيها.

وتعتمد موجهات الإنتاج الإسلامية من الجانب المذهبي على القيم والتشريعات الإسلامية التي يوجبها الإسلام على المنتج، ويتحقق ذلك بمراعاة مجموعة من المعطيات الإسلامية المحددة للسلوك الاقتصادي في الإنتاج كالجانب الإيماني والعقدي والسياسة الشرعية وفقه الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أمر تتضح معالمه من خلال الكتاب والسنة.

وجاء أيضا: ... ومن خلال النظر في موجهات الإنتاج إسلاميا نجد تأثيرها على دالة الإنتاج من خلال ما يلي:

يعدُّ الإسلام استخدام دالة الإنتاج ودراسة معايير توازن المنتج من خلال الأدوات التحليلية التقليدية فيما يخص الإنتاجية والتكلفة أمرا لا مانع منه شرعا لعدم وجود أبعاد قيمية تخالف الشرع، فهي مقدمات تحليلية بحتة وأدوات محايدة، فلا تعارض نصا شرعيا ولا مقصدا معتبرا.

ومن منطلق وجوب المحافظة على المال من الضياع وتحريم الإسراف والتبذير فإن حسن إدارة الاستثمار بحيث يتحرى المستثمر أفضل الفرص التي تنمي المال مطلب شرعي معتبر.

وهذا ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قضية تأبير النخل، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه مر بقوم يلقحون، فقال: «لو لم تفعلوا لصلح»، قال: فخرج شيصا، فمر بهم فقال: «ما لنخلكم؟» قالوا: قلت كذا وكذا، قال: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»، فبعد أن وجههم إلى ترك تلقيح النخل تبين أن ذلك يخرج الثمر شيصا، أي: بسرا رديئا، فبين لهم أن الأمور المتعلقة بالجوانب الفنية يؤخذ بها من الخبرة والتجربة، وهي أمر مرغوب فيه لتحسين الإنتاج.

حسن اختيار المشروع الذي يحقق الأهداف الاستثمارية المرجوة فذلك يدخل ضمن حسن الإدارة في تنمية المال، وينبغي أن يلحظ فيه مدى الإضافة الحقيقية للمجتمع.

وقد اختلفت آراء الباحثين المعاصرين في الموجهات الذي ترجح اختيار المشروع الاستثماري، فمنهم من يرى أنه لا ينبغي أن يكون اختيار المنتج يكرس مبدأ تعظيم الأرباح بل يراعي الأفضلية في المنافع الاقتصادية للمجتمع، ومن الباحثين من يرى أن مراعاة سلم الأولويات هو الموجه الأهم لتحقيق الرفاهية الشاملة للمجتمع مع تسويغ وجود قصد تعظيم الأرباح بالنسبة للمستثمر، ومنهم من يشير إلى وجوب تغطية مختلف مجالات الاستثمار بناء على اعتبار القيام بالأنشطة الضرورية للمجتمع فرض كفاية على المجتمع، وبعضهم اعتبر وجود شقين لتوجيه اختيار الاستثمار الخاص وهما: تعظيم الأرباح للمستثمر مع التزامه للضوابط الشرعية للاستثمار ومراعاة خفض الكلفة المجتمعية للاستثمار.

ويرى بعض الباحثين أن توجيه الاستثمار الخاص نوعيا إنما يكون بتحفيز السياسة الشرعية التي تجعل الاختيار الأمثل ذا ربحية معتبرة تجذب المستثمر لاختيارها، فالأصل أن المستثمر يقصد تنمية أمواله وتعظيم أرباحه، وإنما يجب عليه التزام الضوابط الشرعية في الإنتاج، أما اختياره بين المشروعات الاستثمارية فيكون بدافع الربحية الأعلى أو الأكثر أمانا، ويبقى دور السياسة الشرعية في التوجيه العام من خلال تهيئة المناخ الاستثماري المحفِّز.

الانطلاق من الاختيار السليم بناء على دراسة جدوى سليمة بحيث يكون اختيار المشروع أكثر ربحا، وأكثر أمنا من تقلبات السوق كإعطاء الأولوية للمشروعات التي يكون الوصول فيها إلى نقطة التساوي بين الإيرادات والتكاليف في أقرب فترة ممكنة.

ومما يراعى في اختيار المشروع الاستثماري مدى تأثُّر العملية الإنتاجية بالتغيرات السياسية، فالوضع الأمني والوضع الاقتصادي والأزمات المالية وغيرها مؤثرات تبرزها دراسة الجدوى، وتحدد القرار الاستثماري الأفضل.

ومما ينبغي أن يراعى في دراسة العملية الإنتاجية اعتماد الأسس الشرعية في رأس المال وكلفة التمويل فيمكن دراسة كلفة التمويل من خلال إحلال التكلفة الاحتمالية الحدية لرأس المال النقدي محل التكلفة الثابتة (الفائدة) في قرار اختيار تقنية الإنتاج نظرا لحرمة الربا في الإسلام.

تحري الثبات على تكاليف أقل وإيرادات أكبر، لأن نجاح المؤسسة يزيد من فرص التوسع في أنشطة أخرى، مما يعني تشغيلًا أفضل للعمال ولرأس المال والأرض والموارد، ويحافظ على العملة الصعبة، ويؤدي إلى زيادة الناتج القومي الإجمالي، وتوازن أفضل للتبادل التجاري.

فهذا يبين بشكل جلي أن معطيات الاقتصاد الوضعي ينبغي الأخذ بها وبما لا يتعارض مع الإسلام وتعاليمه، بحيث لا تبرر الغاية الوسيلة بل تلتزم الوسيلة الحلال للكسب الحلال، مع الأخذ بالأسباب في ذلك.

ما موقف الإسلام من الاقتراض والدين؟ ولماذا أصبح الناس يستسهلون موضوع الاستدانة والقروض؟

الأصل في الإسلام تجنب الدين إلا في عند الحاجة، ووجود مصلحة راجحة، والقدرة على السداد وأداء الالتزامات، ومراعاة الأولويات، فلا يسوغ التوسع في الكماليات مع التعثر في قضاء الديون الواجبة مثلا، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ»، وفي رواية «لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ»، فالغني المماطل هو من يجد ما يسدد به دينه، ولكن لا يؤديه أو يصرفه في أمورٍ أخرى، فهذا يعد ظلمًا، يحل عرضه وعقوبته.

وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الدين، وقرنه بالإثم كما ورد في دعائه صلى الله عليه وسلم: «وأعوذ بك من المأثم والمغرم».

ومع الأسف تساهل الناس في الاستدانة بسبب النمط السائد غالبا في المجتمع في الاستهلاك الذي لا يراعي الأولويات ولا يتلاءم مع مستوى الدخل لبعض الأفراد في المجتمع.

الملاحظ أن الكثير من القضايا في المحاكم متعلقة بعدم سداد القروض، فهل أصبحت الناس تتساهل في ذمم غيرهم وأموالهم أم أن هنالك إشكالات أخرى؟

إن المتأمل في تشريعات الإسلام يجد تشديدا بالغا في حفظ حقوق الناس، وعدم جواز الاعتداء عليها ومن ذلك قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (النساء:29)، وقوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة:188)، وقوله تعالى: (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (الأعراف:85).

أما في السنة فقد ورد في خطبة الوداع: «... فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه»، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة»، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: «وإن قضيبا من أراك»، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعرضه».

وهذا يدل على أن تساهل كثير من الناس في أداء الحقوق مؤشر خطير على عدم إدراكهم لأهمية حفظ الحقوق وعواقب التفريط فيها.

ما العوامل التي أسهمت في تعزيز الثقافة الاستهلاكية في المجتمع، بحيث أصبح الناس يشترون بما يتجاوز قدراتهم المالية؟

تعرض الكتاب إلى أهم ما يؤثر في العقول، ويرسخ ثقافة الاستهلاك فيها، وهو الدعاية الإعلامية، والحالة النفسية، وقد خصص المؤلف فصلين لذلك، فصل عن الدعاية وأثرها في قرار المستهلك، وفصل عن تأثير التصورات النفسية المؤثرة في السلوك الاستهلاكي، وهو ما يتناول الآن في علم الاقتصاد السلوكي، جاء في كتاب المورد:

إن من أكبر التحديات في العصر الحديث مقاومة الدعاية الإعلامية التي يمكنها أن تسيطر على الرأي العام على مختلف الأصعدة، وقد بلغت مبلغا عظيما مع تبلورها بصورة فن يدرس، وينظر له، ويمول من قبل المستفيدين منه، لا سيما الساسة والتجار.

ولمعرفة التطور الهائل في تأثير الدعاية، ووسائلها وتطور أدواتها في السيطرة على قرار الناس في أنماط حياتهم وتوجهاتهم الاجتماعية والسياسية والفكرية وقراراتهم الاقتصادية نتطرق لبداية نشأة الدعاية الإعلامية التي عرفت في بداياتها بمصطلح البروباجندا.

وجاء أيضا: «عند النظر في مرجعية القرار الاقتصادي للمستهلك يظهر أن فلسفة التملك في الإسلام تنظم قرار المستهلك في توجيه المال، فهو مضبوط بقاعدة أن الاستهلاك وسيلة للعبودية وليست غاية، وأن أصل ملكية المال تبعية وليست أصالة، فالأصل في المال أنه مملوك لله تعالى، وإنما سلطت يد الإنسان عليه ليتمكن من أخذه من حله، ويضعه في محله، فهو مؤتمن عليه».

وبتصحيح نظرة الإنسان إلى المال ينضبط سلوكه الاقتصادي على جميع الأصعدة.