إشراقات

المكر في كتاب الله

22 يونيو 2023
تأملات قرآنية
22 يونيو 2023

عند تأمل النص القرآني نجد أنه احتوى على مصطلحات وألفاظ تحمل دلالتها صفة إيجابية او سلبية على حسب الموصوف، ومن هذه المصطلحات كلمة "المكر" فهذه الكلمة لو أتينا إلى دلالتها اللغوية لوجدنا أنها تعني التدبير والخديعة والكيد، وقد وصف الله تعالى المشركين الجاحدين بوصف المكر، ولكنه وصف ذاته العلية بأنه خير الماكرين، فتدبيره فوق كل تدبير.

فنجد في سورة آل عمران قوله تعالى: "وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" وذلك أن بني إسرائيل أرادوا أن يقتلوا عيسى عليه السلام، وأرادوا أن يمكروا به ليقتلوه، ولكن الله مكر بهم وذلك أنه جعلهم يقتلون بشبيهه، ورفع عيسى عليه السلام إليه، فهو خير الماكرين.

وقال ربنا في سورة الرعد: "وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ" ويحدثنا ربنا عن مكر الذين كفروا من الأمم السابقة قبل كفار قريش، ولكن المكر لله جميعا، فهو يعلم مكرهم وتخطيطهم من قبل أن يمكروا، فما كان من مكرهم هذا أن يضرا أحدا إلا أذن الله بذلك.

وأشار القرآن الكريم في سورة إبراهيم إلى مكر الكافرين من الأمم السابقة، فقال تعالى: "وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ" ومن ذلك مكر النمرود في محاولته لاختراق السماء من خلال نسرين محلقين للاطلاع على السماء، كما فعل فرعون عندما طلب من هامان أن يبني له صرحا مرتفعا ليطلع على الله عز وجل، ولكن مكرهم وحيلتهم أحقر من مرادهم، حتى وإن كان مكرهم من دهائه وشدته لتزول من الجبال الشامخات.

وفي قصة فرعون وموسى موطن ظهر فيها المكر وأثبتها الله عز وجل في كتابه فقال تعالى في سورة غافر: "فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" أثناء حديثه عن الرجل الذي كان من قوم فرعون ويكتم إيمانه، وقد جائهم على سبيل النصح لهم، ولكنهم لم يمتثلوا لنصحه، فوقاه الله مكرهم وخبثهم وعقابهم لمن ينصحهم ويأمرهم بالمعروف، وأحاط بفرعون وقومه سوء العذاب وذلك بالإغراق.

في موضع آخر نجد فرعون يتهم السحرة بعد أن آمنوا بأنهم مكروا به باتفاقهم مع موسى عليه السلام الذي وصفه في موضع آخر بأنه كبيرهم الذي علمهم السحر فقال تعالى في سورة الأعراف: "قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ" وهو وصف باطل والتفاف على الحقيقة وجحودها وذلك لكي لا يؤمن بنبوة موسى عليه السلام.

وقد كان لنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم مواقف مع مكر قومه به، فأمره الله عز وجل بالصبر وعدم الضيق فقال تعالى في سورة النحل: "وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ" وأكد الله عز وجل هذا الأمر في سورة النمل بقوله جل من قائل: "وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ" أي لا تحزم يا محمد على تكذيب قومك لك ومكرهم بك وإعراضهم عنك وتكذيبهم لك.

وبين الله سبب مكرهم برسولهم وغايتهم في ذلك في سورة الأنفال فقال الله تعالى: "وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" فأخبر رسوله الكريم بأن الكفار يمكرون به إما ليقيدوه ويوثقوه، أو ليقتلوه، أو ليخرجوه، ولكن طمأنه الله بأن مكره وتدبيره وكيده محيط بمكرهم وكيدهم وهو خير الماكرين.

ويخبرنا الله عز وجل عن مكر الأمم السابقة وكيف كان عاقبة مكرهم أن دمرهم الله، مثل قوم ثمود الذين أرسل لهم الله نبيه صالح عليه السلام فطلبوا منه المعجزات الواضحات ومنها الناقة التي خرجت من الصخر، ولكنهم لفساد فطرتهم قتلوا الناقة وأرادوا أن يمكروا بصالح عليه السلام ويقتلوه هو وأهله، ولكن الله مكر بهم ودمرهم تدميرا، فقال تعالى في سورة النمل: "وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ"

وهذا حال المكذبين الذين يمكرون المر السيء الذي يحيق بهم، وهذه سنة واقعة على الأقوام السابقين، فقال تعالى في سورة فاطر: "اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا" وقال تعالى في سورة النحل: "قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ". وقال في الذين مكروا السيئات في سورة النحل: "أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ". وقال في الذين يمكرون السيئات في سورة فاطر: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ".

أما قوم نوح فقد وصف الله مكرهم بأنه عظيم فقال تعالى في سورة نوح: "وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" ولكن الله أغرقهم بالطوفان".

وعلى الإنسان أن لا يأمن مكر الله فقد ينعم الله عليه بالنعم استدراجا، وقد وصف الله أن الذين يأمنون مكر الله هم القوم الخاسرون، فقال تعالى في سورة الأعراف: "أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ"،

وبين الله عز وجل بأن الإنسان إن أنعم الله عليه بالرحمة بعض أن أصابه البلاء تجده ينسى نعمة الله عليه ويكذب بآيات الله، فقال تعالى في سورة يونس: "وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ".

وقد ورد المكر في قصة يوسف عليه السلام في موضعين، الأول في قوله تعالى: "فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ" وهو مكر النسوة عندما قلن أن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسها فقد شغفها حبا.

والموضع الآخر عندما مكر اخوة يوسف بأخيهم ورموه في البئر فقال تعالى في سورة يوسف: "ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ".