No Image
إشراقات

الكلمة في القرآن الكريم

19 يناير 2023
تأملات قرآنية
19 يناير 2023

الكلمة في الدين الإسلامي لها أهمية بالغة، فلذلك أخبرنا المولى عز وجل في كتابه العزيز بأن كل كلمة ينطقها الإنسان ويتحرك لسانه بها، هي مسجلة مثبتة في كتابه، وقد أوكل الله ملكين على كل إنسان يسجلان كل ما يقول، فقال تعالى في سورة ق: «مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»، فربما ينطق المرء بكلمة تكون شفيعة له يوم القيامة، وربما ينطق المرء بكلمة في سخط الله فتهوي به في قاع جهنم، كما دلت على ذلك الكثير من الأحاديث النبوية، فقد أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن حصائد هذه الألسن قد تكب الناس على وجوههم في جهنم.

ولذلك نجد الكتاب العزيز أولى عناية خاصة حتى بمصطلح «الكلمة» فقد تعددت استخداماتها في آيات القرآن الكريم، وتنوعت سياقاتها، كما أن معنى هذا المصطلح ودلالاته تختلف باختلاف التعبير القرآني الواردة فيه.

فلو أتينا إلى تشبيه الله عز وجل الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة، في قوله تعالى في سورة إبراهيم: «أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ * تُؤتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذنِ رَبِّها وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُم يَتَذَكَّرونَ» لوجدنا أنه شبهها بالشجرة الطيبة التي يكون أصلها ثابتا مستقرا متينا وفرعها عاليا مرتفعا وثمرها باسقا يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، وقد اختلف المفسرون في معنى الكلمة الطيبة، فبعضهم قال إنها كلمة التوحيد، وهي: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله» وبعضهم قال إنها كل كلام طيب حسن، وشبهها بالنخلة في ثبات أصلها ومتانته، وفرعها العالي المرتفع، وثمرها الطيب الذي تجود به، هي تؤتي ثمارها للناس، فمنه ما يأكلونه في وقته وهو البسر والرطب، ومنها ما يأكلونه في سائر العام وهو التمر، وكذلك حال الكلمة الطيبة تثمر في النفوس، فيكون ثمرها المعاملة الحسنة والمشاعر الصادقة والأثر الطيب.

كما أن الآية التي تلتها تناولت وصف الكلمة الخبيثة، وشبهتها بالشجرة الخبيثة، فقال تعالى: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجتُثَّت مِن فَوقِ الأَرضِ ما لَها مِن قَرارٍ» فهي مثل الشجرة الخبيثة التي لا يرغب أحد بها بل يتم اقتلاعها واجتثاثها من الأرض ليلقى بها.

واستعمل القرآن لفظ الكلمة في سياق مختلف بمعنى آخر، يقصد بها المسيح عيسى بن مريم، فقال تعالى في سورة آل عمران: «فَنادَتهُ المَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلّي فِي المِحرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحيى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصّالِحينَ» فأخبرت الملائكة النبي زكريا -عليه السلام- بأن الله يبشره بيحيى وابن خالته كلمة الله عيسى عليهما السلام، ويذكر المفسرون بأن إطلاق «كلمة» على عيسى -عليه السلام- بأنه ولد من غير أب ولكنه خلق من خلال كلمة «كن» فهو كلمة الله. وكذلك أخبرت الملائكة مريم -عليها السلام- بأن الله يبشرها بكلمة منه وهو المسيح عيسى عليه السلام فقال: «إِذ قالَتِ المَلائِكَةُ يا مَريَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنهُ اسمُهُ المَسيحُ عيسَى ابنُ مَريَمَ وَجيهًا فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبينَ».

وكانت العرب تستعمل لفظة «كلمة» على كل قصة لها شرح، بل وكانوا يطلقون على القصيدة لفظة «كلمة» وقد استخدمها السياق القرآني بهذا المعنى فقال تعالى في مخاطبته لأهل الكتاب من اليهود والنصارى في سورة آل عمران: «قُل يا أَهلَ الكِتابِ تَعالَوا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَينَنا وَبَينَكُم أَلّا نَعبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشرِكَ بِهِ شَيئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعضُنا بَعضًا أَربابًا مِن دونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَقولُوا اشهَدوا بِأَنّا مُسلِمونَ»، وقد بين الكتاب العزيز هذه الكلمة وهي عبادة الله وتوحيده، وعدم الشرك به.

وفي سياق مختلف نجد أن الله عز وجل استخدم «كلمة» للعذاب وفي توعد أصحاب النار من الإنس والجن بالعذاب الشديد يوم القيامة، فقال تعالى في سورة هود: «إِلّا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُم وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَملَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجمَعينَ»، فلذلك نجد المفسرين يحيلون تفسير لفظة «كلمة» التي ترد مع العذاب إلى معنى الآية السابقة فنجد الآيات التي يوجد فيها الوعيد ينصرف التفسير إلى الكلمة التامة أن العقاب سيكون يوم القيامة، ومن ذلك قوله تعالى في سورة يونس: «وَما كانَ النّاسُ إِلّا أُمَّةً واحِدَةً فَاختَلَفوا وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينَهُم فيما فيهِ يَختَلِفونَ» أي كلمة سبقت بالفصل بينهم يوم القيامة، وقال تعالى في سورة هود: «وَلَقَد آتَينا موسَى الكِتابَ فَاختُلِفَ فيهِ وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّهُم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُريبٍ» وقال تعالى في سورة طه: «وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ لَكانَ لِزامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى» وقال تعالى في سورة فصلت: «وَلَقَد آتَينا موسَى الكِتابَ فَاختُلِفَ فيهِ وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّهُم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُريبٍ»، وقال في سورة الشورى: «وَما تَفَرَّقوا إِلّا مِن بَعدِ ما جاءَهُمُ العِلمُ بَغيًا بَينَهُم وَلَولا كَلِمَةٌ سَبَقَت مِن رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الَّذينَ أورِثُوا الكِتابَ مِن بَعدِهِم لَفي شَكٍّ مِنهُ مُريبٍ» وقال: «أَم لَهُم شُرَكاءُ شَرَعوا لَهُم مِنَ الدّينِ ما لَم يَأذَن بِهِ اللَّهُ وَلَولا كَلِمَةُ الفَصلِ لَقُضِيَ بَينَهُم وَإِنَّ الظّالِمينَ لَهُم عَذابٌ أَليمٌ».

وفي ملمح آخر، نجد الكتاب العزيز يذكر كلمة الذين كفروا، وكلمة الله في سورة التوبة فقال تعالى: «إِلّا تَنصُروهُ فَقَد نَصَرَهُ اللَّهُ إِذ أَخرَجَهُ الَّذينَ كَفَروا ثانِيَ اثنَينِ إِذ هُما فِي الغارِ إِذ يَقولُ لِصاحِبِهِ لا تَحزَن إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكينَتَهُ عَلَيهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنودٍ لَم تَرَوها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذينَ كَفَرُوا السُّفلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُليا وَاللَّهُ عَزيزٌ حَكيمٌ» فكلمة الذين كفروا هي كلمة الكفر هي الجحود والإعراض والصد عن سبيل الله من خلال قتالهم للمسلمين، فهزموا وصار أمرهم للهلاك والهزيمة، أما كلمة الله وهي كلمة التوحيد التي ينادي بها المسلمون هي العليا.

من جهة أخرى، نجد أن القرآن الكريم يشير في آية بعينها إلى مقولة بذاتها أسماها كلمة الكفر الواردة في سورة التوبة في قوله تعالى: «يَحلِفونَ بِاللَّهِ ما قالوا وَلَقَد قالوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَروا بَعدَ إِسلامِهِم وَهَمّوا بِما لَم يَنالوا وَما نَقَموا إِلّا أَن أَغناهُمُ اللَّهُ وَرَسولُهُ مِن فَضلِهِ فَإِن يَتوبوا يَكُ خَيرًا لَهُم وَإِن يَتَوَلَّوا يُعَذِّبهُمُ اللَّهُ عَذابًا أَليمًا فِي الدُّنيا وَالآخِرَةِ وَما لَهُم فِي الأَرضِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصيرٍ» فقد أورد الطبري في تفسيره أن هذه الآية «نـزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، قال: «إن كان ما جاء به محمد حقًّا، لنحن أشرُّ من الحُمُر!»، فقال له ابن امرأته: والله، يا عدو الله لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بما قلت فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعةٌ، وأؤاخذ بخطيئتك! فدعا النبي -صلى الله عليه وسلم- الجلاس فقال: «يا جُلاس، أقلت كذا وكذا؟ فحلف ما قال فأنـزل الله تبارك وتعالى: «يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمُّوا بما لم ينالوا وما نَقَموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله».