No Image
إشراقات

الكسـب فـي كتـاب اللـه

13 يوليو 2023
تأملات قرآنية
13 يوليو 2023

لو تأملنا الكتاب العزيز وما يستخدمه من مصطلحات لوجدنا بعضها يرتبط بمصطلحات أخرى تكون ملازمة لها في كثير من المواضع، وذلك لأن القرآن الكريم يريد أن يؤكد على معنى محدد يحصل بالتقاء هذين المصطلحين أو المفردتين، مع وجود بعض المصطلحات منفردة لتأدية معان مختلفة حسب السياقات الواردة فيه، ومن تلك المصطلحات كلمة «كسب» ومعناها اللغوي الحصول على الشيء بعد طلبه، والكسب هو الربح والحصول، وتتبلور هذه المعاني ودلالاتها في السياقات القرآنية، فقد يكون الكسب ماديا، كأن يكسب مالا، أو أن يكون الكسب معنويا، ويقصد به جزاء الفعل الذي قام به، أو ثمرة ذلك الفعل.

ولو أتينا إلى الآيات التي وردت فيها كلمة الكسب بالمعنى المادي لوجدنا منها قوله تعالى في سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ»، فالله تعالى أمر المؤمنين أن ينفقوا من أموالهم الطيبة التي كسبوها بالحلال، أو أن ينفقوا مما أخرج لهم الله من الثمار والأرزاق، وفي موضع آخر من سورة البقرة يتوعد الله اليهود الذين يفترون على الله الكذب ليحصلوا على مكاسب مادية ومعنوية، أما المكاسب المادية فهو بقاء أحبار اليهود على زعاماتهم التي يتحصلون بها على أموال الناس، وأما المكاسب المعنوية فهي متمثلة بالنسبة لهم في صد اليهود عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للإسلام بقوله: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ».

ولكن الكتاب العزيز أورد في مواضع كثيرة الكسب المتعلق بالنفس، وهو كسب معنوي يتعلق بالجزاء الناتج عن الفعل، فما يفعله الإنسان الذي هو جوهره النفس البشرية سوف يجازى بما تكسبه هذه النفس من جراء أفعالها، فقال تعالى في سورة المدثر: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»، وقال تعالى في سورة إبراهيم: «لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ»، فالنفس البشرية هي التي أعطاها الله عز وجل حرية الإرادة، فهي تختار أفعالها والجزاء قائم على الاختيارات التي تختارها بإرادتها فقال تعالى في سورة الأنعام: «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» وقال تعالى في سورة الرعد: «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ».

ويقرر الله حقيقة أنه عز وجل استأثر بمعرفة علم الساعة وعلم الغيب، ولكن البشر لا يدرون ماذا يكسبون في المستقبل ولا يدرون أيضا بأي أرض سيموتون فقال تعالى في سورة لقمان: «إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».

وبين الله عز وجل في كتابه الكريم أنه لا يظلم عباده، فكل سيجازى بما قدم من أعمال فقال تعالى في سورة غافر: «الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» وأكد على هذا الأمر بقوله في سورة الجاثية: «وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ».

وأوضح المولى عز وجل بأن الله لا يؤاخذ الإنسان بيمين اللغو، ولكن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من خلال نواياهم وعزمهم ومقصدهم، فقال تعالى في سورة البقرة: «لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ»

وقد ذكر الله عز وجل من أحوال الأمم السابقة من الذين لم تنفعهم أموالهم وما كانوا يكسبون بعد أن أتاهم عذاب الله فقال تعالى في أصحاب الحجر وهم قوم ثمود بعد ما كذبوا نبيهم صالح عليه السلام وعقروا الناقة فأرسل الله عليهم العذاب فقال في سورة الحجر: «وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، وذكر الله تعالى قصة ثمود في سورة فصلت فقال: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، فالله أرسل عليهم العذاب نتيجة لأفعالهم وكسبهم السيئ.

وأشار ربنا إلى أن أهل القرى التي أهلكها من الأقوام السابقين لو أنهم آمنوا لفتح الله عليهم بركات وهبات كبيرة من السماء والأرض ولكنهم كذبوا وأعرضوا فعذبهم بما كانوا يكسبون من الإثم والفواحش فقال تعالى في سورة الأعراف: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ».

وقد خاطب الله المكذبين المشركين مستنكرا عليهم أفعالهم وتكذيبهم وعدم اتعاظهم بالذين سبقوا من قبلهم من الأمم والأقوام التي لا تزال آثارهم شاهدة عليهم فقال في سورة غافر: «َأفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ»، وأكد الله عز وجل على أن كلمة الكفر والتكذيب قد قالها المكذبون من الأمم السابقة التي سبقت قريشا، ولم تغن عنهم أموالهم وما كانوا يكسبون شيئا من عذاب الله، فقال الله عز وجل في سورة الزمر: «قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ»، وهذا حال الكافرين يوم القيامة فلا يغني عنهم ما كسبوه في الدنيا من مال وولد شيئا يوم القامة فالعذاب واقع بهم فقال تعالى في سورة الجاثية: «مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

وأورد الله كلمة الكسب في معرض ضرب الأمثال، مرتبطة بعدم القدرة على الاستفادة مما يكسب، فقال تعالى في سورة البقرة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»، فالذين ينفقون أموالهم رياء وليست خالصة لوجه الله لا يستفيدون من هذه الصدقة مثلهم كمثل المطر الذي ينزل على الصخور الصلبة التي عليها طبقة خفيفة من التراب عندما يسقط عليها المطر سوف يزيل تلك الطبقة الخفيفة من التراب ويتركها صلبة لا ينبت فيها العشب، فهي لا تستفيد من كسبها المطر، كما أن المنفقين لا يستفيدون من كسبهم الصدقة.

ومن أمثلة ذلك أيضا قوله تعالى في سورة إبراهيم: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ» أي أن الذين كفروا بربهم لن تنفعهم أعمالهم يوم القيامة فكل ما كسبوه من أعمال لغير وجه الله لا يرجون منفعتها، كمثل الذي يحاول أن يجمع الرماد في يوم عاصف، لن يستطيع ذلك.