No Image
إشراقات

القرب في القرآن الكريم

26 يناير 2023
تأملات قرآنية
26 يناير 2023

الباحث في كتاب الله والمتأمل لألفاظه ومصطلحاته، يجد أن بعض الألفاظ تكون دلالاتها حسية واقعية، أو أنها تحمل معاني بعيدة يفسرها السياق الذي وردت فيه، وقد تتداخل الدلالة الحسية والمعنوية في السياق، ومن هذه الألفاظ القرآنية هو لفظة القريب، فهذه اللفظة لها معان متعددة، فلو أتينا إلى آية من آيات الكتاب العزيز وهي قوله تعالى في سورة البقرة: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» لوجدنا أن الله يقول لنبيه الكريم أنه إذا سألك عبادي عني، فأخبرهم أنني قريب أجيب دعاءهم، ويبين المفسرون شدة القرب التي أراد الله بها أن يرغب عباده في دعائة فقال: فإني قريب، ولم يقل لهم قل لهم أني قريب، فالفاء هنا تفيد الترتيب والتعقيب والسرعة، وأكدها بإحدى أدوات التأكيد إن، ثم أتى بالفعل مباشرة، وهذا يدل على أن الله قريب من عباده الذين يدعونه وهو كذلك قريب من استجابة دعائهم.

وهذا ما تؤكده الآية الكريمة في سورة هود في قوله تعالى: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» فقد أكد صالح -عليه السلام- في دعوته لقومه ثمود، مبينا لهم فضل الله عليهم في خلقه لهم من هذه الأرض وفي استعمارهم فيها مطالبا إياهم أن يتوبوا إلى ربهم ويستغفروه موضحا لهم أن الله قريب ممن يدعوه مستجيبا لدعائه.

وكذلك في دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- لقومه في قوله تعالى في سورة سبأ: «قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ» فالرسول -صلى الله عليه سلم- قال في حديثه الشريف: «إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنما تدعون سميعا قريبا مجيبا».

وفي موضع آخر من كتاب الله نجد في سورة الأعراف قوله تعالى: «وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ» فالله يبين أنّه قريب من المحسنين، والإحسان أعلى درجات الإيمان، فالمحسن يصل إلى درجة «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

وقد اشترط الله لقبول التوبة أي يتوب الذي عمل المعصية من قريب، في قوله تعالى في سورة النساء: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» وقد اختلف المفسرون في هذه اللفظة، فمنهم من أخذها أنه يتبع السيئة الحسنة، حتى لا تحبط الأعمال، ومنهم من قال من قريب تعني قبل الغرغرة ونزع الروح، ومنهم من قال في عافيته قبل مرضه.

ويأتي ذكر العذاب القريب ويراد به عذاب الآخرة، ويأتي أيضا بهذا اللفظ ويراد به عذاب الدنيا، فلو أتينا إلى الآية الكريمة من سورة النبأ في قوله تعالى: «إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا» فهي تحكي عن حال الناس يوم القيامة ففي هذه الآية القرائن المذكورة في السياق هي التي حددت أن المقصود من ذلك عندما يقرأ كتابه ويتمنى الكافر أن لو كان ترابا، ولكن في سورة هود ورد العذاب القريب ولكن في سياق مختلف في قوله تعالى: «وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ» فهنا يبين السياق أن العذاب القريب يقصد به العذاب الدنيوي الذي وقع على قوم ثمود بعد طغيانهم وقتلهم الناقة.

كما نجد في كتاب الله عبارة «أجل قريب» فقال تعالى في سورة النساء: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا» واختلف المفسرون في من نزلت عليهم هذه الآية، فقالوا نزلت في المنافقين، وقيل نزلت في المؤمنين الذين لم يرسخ إيمانهم، وقيل نزلت في المؤمنين الذين نافقوا بسبب جبنهم، والمقصود من «أجل قريب» هو الموت عند وصول الأجل وليس في الحرب، وهو تصور مغلوط عندهم، فالإنسان لا يموت إلا في أجله سواء كان في فراشه أو في المعركة.

ويخاطب الله المؤمنين أن ينفقوا من أموالهم قبل أن يدركهم الموت، فقال في سورة المنافقين: «وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ» فعندما يأتي الموت يقول المرء يا رب أخرني إلى أجل قريب لكي أخرج الزكاة وأتصدق وأكن صالحا، ولكن الله لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها.

وفي موقف آخر نجد المولى عز وجل يأمر نبيه أن ينذر الناس، لكي لا يأتوا يوم القيامة يطلبون من الله إمهالهم وأن يعودوا إلى الدنيا، فيجيبون دعوة رسلهم لهم، وهيهات أن يجابوا في طلبهم، ويذكرهم الله بما كانوا عليه من إعراض وجحود فقال تعالى في سورة إبراهيم: «وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ».

وقد أنكر المشركون يوم القيامة وأنكروا البعث، وذلك ما أخبرت عنه الآية الكريمة في سورة الإسراء في قوله تعالى: «أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا» فهم يسألون أنّه من يستطيع أن يعيدنا أحياء بعد أن متنا وصرنا ترابا، فأجابهم الكتاب العزيز أنه يعيدهم الذي خلقهم أول مرة وأوجدهم من العدم، فيهزون رؤوسهم سخرية ويقولون متى يقع ذلك، فيأمر الله نبيه أنه يخبرهم بعبارة عسى أن يكون قريبا، ولا يخبرهم بموعدها فهو لا يعلم موعدها، وإنما علم الساعة عن الله عز وجل، وقال لهم عسى أن يكون قريبا، فكل قريب آت. وهذا ما تم التأكيد عليه في سورة الأحزاب في قوله تعالى: «يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا» وكذلك الآية الكريمة من سورة الشورى: «اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ»، ولذلك أورد الله عز وجل في كتابه أن نبيه لا يعلم متى تقوم الساعة فقال صراحة بأنه لا يدري هل هي قريبة أم بعيدة، فقال في سورة الأنبياء: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ»، وقال في سورة الجن: «قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا».

وعبر القرآن الكريم عن النصر بالفتح القريب وذلك في سورة الفتح، حيث قال الله تعالى: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا» فقال المفسرون أن المقصود بالفتح القريب هو فتح خيبر، وذهب بعضهم إلى أنه كل الخير الذي كان في ذلك العام من فتح خيبر وبعده فتح مكة، ودخول الكثير من الأمصار في الإسلام. وقال تعالى في آية أخرى: «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا»، وقال تعالى في سورة الصف: «وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ.