No Image
إشراقات

الغيب في القرآن الكريم

16 مارس 2023
تأملات قرآنية
16 مارس 2023

لم يقتصر كتاب الله في سياقاته المختلفة الحديث عن المشاهدات والمحسوسات ولكنه شمل عالم الغيوب، وأخبرنا بما لم نكن نعرفه ولا نستطيع إلى علمه سبيلا، إلا من خلاله ومن خلال ما أخبرنا به نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك أن حواس الإنسان وأدوات إدراكه قاصرة، وعلمه ومعرفته قاصرة، فلذلك جاءت هذه النصوص السماوية وهذا الإخبار عن الغيب ليكمل جزءا من المعرفة التي يستطيع الإنسان إدراكها.

والغيب هو ما غاب عن العيون والحواس، ولا يستطيع الإنسان معرفته إلى بالإخبار عنه، مثل عالم الملائكة، والجنة والنار، والعرش، ويندرج ضمنه ما كتب في اللوح المحفوظ وما وقع في الماضي وما يقع في المستقبل في علم الله، مثل أخبار الأمم البائدة التي انقطع ذكرها، وأخبار آخر الزمان، والبعث والنشور.

ولو تتبعنا المواطن التي أتى فيها ذكر الغيب في القرآن الكريم لوجدنا أنها مواضع كثيرة، ومتنوعة حسب تنوع السياق الذي وردت فيه، والإيمان بالغيب بمفهومه العام ومشتملاته هي أساس في الدين الإسلامي، فالإيمان بالغيبيات من ضمن أركان الإيمان مثل الإيمان بالملائكة، والقدر خيره وشره، واليوم الآخر، ولذلك فإن القرآن الكريم قدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة، لأنه بناء على هذا الإيمان ونتيجة له سوف يقيم المؤمن الصلاة، فالإيمان قبل العبادة، فقال تعالى في سورة البقرة واصفا المتقين: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ».

ووردت لفظة الغيب في موضع آخر بمعنى الخلوة بمعنى الخشية في النفس وهي التي لا يطلع عليها أحد اطلاعا كاملا إلا صاحبها وخالقه، فقال تعالى في سورة فاطر: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ».

وجاء هذا المعنى في آية أخرى لتبين للمؤمنين صدق إيمانهم فيبتليهم الله، ومن هذه الابتلاءات هو تحريم صيد البر وهم محرمون وفي هذا ابتلاء، فهل سيقفون عند حدود الله ولا يجترحون الصيد وهل في البر وقد لا يراهم أحد ولكنهم يفظون أمر الله في الخفاء، فقال تعالى في سورة المائدة:« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ».

وكما أشرنا إلى أن الغيب يتضمن أخبار الأمم الغابرة التي انقطع ذكرها وامتحى خبرها، ولكن الله أخبر بها في كتابه العزيز، وساق تفاصيله، وأكد على أن تلك الأخبار هي من أنباء الغيب التي لم يكن للرسول ولا لقومه معرفة بها، وقد ساق الله إليهم تفاصيلها ليتعظوا بمن قبلهم فقال تعالى في سورة هود: «تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ»، وكذلك من أنباء الغيب ما ذكره الله من تفاصيل في قصة مريم عليه السلام فقال تعالى في سورة آل عمران: «ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ». وكذلك في تفاصيل قصة إخوة يوسف عليه السلام حيث يقول الله تبارك وتعالى في سور يوسف: «ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ».

وقد بين الله أنه استأثر بعلم الغيب، فلا يعلمه إلا هو، حتى الذين اصطفاهم من عباده من الأنبياء والمرسلين مع أنهم اطلعوا على خبر السماء إلا أنهم لم يطلعوا ولم يعلموا الغيب، وقد أكدوا ذلك في مجموعة من آيات الكتاب العزيز فقال تعالى في سورة الأنعام: «قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ»، وقال في سورة هود: «وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ»، وقال في سورة الأعراف: «قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ». وقال في سورة آل عمران: «مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ». فعلم الغيب اختصاص إلهي محض، فقال تعالى في سورة الأنعام: «وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ» وقال في السورة نفسها: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ».

ومن الغيوب التي أطلعها الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنبأه بخبرها، هو معرفة المنافقين فقال تعالى في سورة التوبة: «يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، وقال في السورة نفسها: «وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».

وقد قرن الله عالم الغيب وعالم الشهادة في العلم، فهو الخالق لهذين العالمين المدبر لأمورهما المصرف لأحوالهما، فقال تعالى في سورة الزمر: «قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»، وقال في سورة الحشر: «هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» وقال في سورة التغابن: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»، وقال في سورة المؤمنون: «عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»، وقال في سورة السجدة: «ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ»، وقال في سورة الرعد: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ».

وقد شنع الله على من افترى على الله كذبا رجما بالغيب، فخاطبهم في سياقات مختلفة بتكذيبهم ومن أين لهم تلك الادعاءات، هل اطلعوا على علم الغيب فقال تعالى في سورة الطور: «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ»، وقال في سورة النجم: «أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى»، وقال تعالى في سورة القلم: «أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ»، وقال في سورة سبأ: «وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ»، وقال ربنا في سورة مريم: «أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً».

ومن الرجوم بالغيب التي ذكرها الكتاب العزيز هو عدد أصحاب الكهف فاختلف الناس في عددهم فقال تعالى في سورة الكهف: «سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً». وقد بين القرآن الكريم أن الجن لا يعلمون الغيب وذلك من خلال قصة وفاة سيدنا سليمان عليه السلام الذي مات متكئا على عصاه وكانت الجن تبني له وتشتغل له أعمالا شاقة، وقد قبض الله روحه وهو على هيئته متكئا على عصاه، وقد علموا موته بعد أن مضى زمن وأكلت الرمة عصاه الخشبية فخر ساقطا فتبينت الجن حين إذ أنه مات، ولو كانوا يعلمون الغيب لعرفوا بعد وفاته ولكنهم لبثوا في العذاب المهين إلا أن سقط فقال تعالى في سورة سبأ: «فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ».