No Image
إشراقات

الغضب في القرآن الكريم

09 فبراير 2023
تأملات قرآنية
09 فبراير 2023

المتأمل في كتاب الله يدرك انه ليس كتابا تشريعيا فقط وإنما هو منهج حياة، تتلمس منه أوجه الحياة المختلفة، وتتفق تشريعاته ومبادئه وتوجيهاته، مع السلوك البشري الذي يحفظ للإنسان صحته، وينظم له حياته، ولو تأملنا بعضا من جوانبه، لوجدناه طرح فكرة الغضب في سياقات مختلفة، منها ما يليق بالذات الإلهية، وغضب الحق سبحانه وتعالى هو الغضب الحق، وكيف أن هنالك مواطن يليق بالإنسان أن يغضب فيها، وهنالك مواقف أخرى يليق به الغفران والصفح، وما هي الأمور والتجاوزات التي تغضب الخالق من خلقه، لكي يتجنبها العبد؟ وما هي أسباب غضب الله تعالى على الأقوام السابقة؟

فنحن في كل صلاة نقرأ سورة الفاتحة، وقد أمرنا الله فيها أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم وهو صراط المؤمنين الصالحين الذين أنعم الله عليهم، غير الأقوام الذين غضب عليهم وهم اليهود على قول المفسرين فقال تعالى: «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ».

ولو تأملنا هذا الوصف لليهود وأنهم هم المغضوب عليهم، لوجدنا أنهم كانوا يعملون أعمالا تسخط الله منهم وتغضبه عليهم، وقد ذكر الله جملة من هذه الأعمال التي عملها بنو إسرائيل وأدت بهم إلى غضب الله وعذابه فقال تعالى في سورة البقرة: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ» فهم أهل كفر وتكذيب على الرغم من البينات الواضحات والمعجزات التي أنعم الله بها عليهم، إلا أنهم يأبون إلا أن يعودون إلى خسة طبعهم وتشوه فطرتهم من التكذيب والجحود، فنجدهم بعد ما أنزل الله عليهم المائدة التي طلبوها من السماء، وهي مائدة فاخرة، رأوا إعجاز الله فيها واستجابتهم لطلبها، إلا أنهم في نهاية المطاف عادوا إلى تكذيبهم، فقالوا لا نستطيع أن نصبر على هذا الطعام فقد مللنا منه، فنحن نريد البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل، فأغضبوا الله بهذا الأمر، لأنهم يكذبون بآيات الله ويقتلون النبيين ظلما وعدوانا، فاستحقوا غضب الله وعقابه.

وقد أكد القرآن هذه الحقيقة وقررها في الكثير من آياته، فمن غضبه عليهم أن مسخ بعضهم إلى قردة وخنازير، لضلالهم وفساد فطرهم فقال تعالى في سورة المائدة: «قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ».

ولا يزال القرآن يقرر هذه الحقيقة، حتى في زمن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فهم كفروا بالحق لما جاءهم حسدا وبغيا، فقال تعالى في سورة البقرة: «بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَا أنَزَلَ اللّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤُواْ بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ».

فهم قتلة الأنبياء، ظلما وجحودا وإمعانا في الطغيان والكفر، ولذلك استحقوا غضب الله، فأذلهم الله فقال تعالى في سورة آل عمران: «ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ».

وقصص بني إسرائيل مع نبيهم موسى تبين لك أنه حتى نبيهم الذي أرسل إليهم غضب عليهم وقد بين القرآن الكريم غضب موسى عليه السلام في مجموعة من المواضع، لأن المنطق الذي يتصرفون من خلاله لا ينم عن عقل أو منطق، فهي تصرفات تخرج الحليم من حلمه وتغضبه عليهم لما يرى من تناقض عقيب، وإبطال للعقل، ومن ذلك قصتهم مع عبادة العجل، فقد أجرى الله لهم المعجزات على يد نبيهم ورأوها رأي العين، وأنجاهم الله بها من الهلاك، ولكنهم على الرغم من ذلك، نجدهم يعودون إلى ضلالهم وكفرهم، فعندما أنجاهم الله من جيش فرعون، وشق لهم البحر وعبروا من خلاله، وأغرق الله فرعون وجنوده، بعد هذه الحادثة العظيمة، وهذه الأهوال التي أنجاهم الله منها بمعجزات خارقة عظيمة محسوسة، نجدهم عبدوا العجل الذي صنعه لهم السامري بعد أن تقدمهم موسى استعجالا للقاء ربه، وبعد أن أبلغه الله بأن قومه كفروا من بعده، رجع إليهم غضبان أسفا على هؤلاء القوم الذين لا يعقلون فقال تعالى في سورة الأعراف: «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ». وقال تعالى في سورة الأعراف: «إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ». وقال تعالى: «وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ». وقال تعالى في سورة طه: «فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي».

وبين الله تعالى أن الطغيان عاقبته غضب الله فقال تعالى في سورة طه مخاطبا بني إسرائيل ومن يأتي من بعدهم: «كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى».

ومن أعظم الحرمات التي توجب غضب الله، ولعنته وعذابه الشديد، هو قتل المؤمن متعمدا، فقال تعالى في سورة النساء: «وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً».

وكذلك الشرك بالله يوجب غضب الله وعذابه، فقال تعالى في سورة الأعراف «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ»

ومما يوجب غضب الله هو الفرار من القتال، فهو خيانة تؤدي إلى الهزيمة، وعدم يقين بحصول الحسنيين النصر أو الشهادة، فقال تعالى في سورة الأنفال: «وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».

ومن يرتد عن دينه بمحض إرادته ويشرح صدره للكفر فعليه غضب الله وعذابه فقال تعالى في سورة النحل: «مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ».

ومما يوجب غضب الله هو الحلف به كذبا، وذلك ما قررته آية اللعان في سورة النور فقال تعالى : «وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ». وكذلك غضب الله على المنافقين والمنافقات ولعنهم فقال تعالى في سورة الفتح: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً».

وحذر الله من أن يوالي المؤمنون قوما غضب الله عليهم فقال تعالى في سورة الممتحنة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ». وقال تعالى في سورة المجادلة: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»، وكذلك من يصدون عن دين الله ويحاجون في الله لأجل تشكيك الناس في دينهم فعليهم غضب الله فقال تعالى في سور الشورى: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ».

ولكن من جهة أخرى هنالك غضب غضبه أحد رسل الله، فخرج من قومه وهو مغاضب، ولكنه لم يستأذن الله في الخروج، فامتحنه الله بأن ألقاه في بطن الحوت فعاد وأناب إلى الله فنجاه الله من هذا البلاء فقال تعالى في سورة الأنبياء: «وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

ولكن امتدح الله المؤمنين بأنهم إذا غضبوا يصفحوا ويغفروا فقال تعالى في سورة الشورى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ».