No Image
إشراقات

الحفظ في كتاب الله

18 مايو 2023
تأملات قرآنية
18 مايو 2023

المتأمل في كتاب الله تجده يعتني بمجموعة من المعاني ويستخدم فيها ألفاظا محددة بينما تؤدي معاني متفاوتة بحسب السياق القرآني، فنجده يتناول موضوع الحفظ في سياقات مختلفة، ولكنها تؤدي جميعها معاني متقاربة، بمعنى العناية والحماية والإحاطة، فنجد أعظم آية في القران الكريم وهي آية الكرسي في سورة البقرة وهي «اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ» فعلم الله عز وجل أحاط بالسماوات والأرض، ولا يعجزه أو يتعبه حفظهما وحمايتهما والعناية بهما وتصريف أمورهما.

كما بين ربنا عز وجل أنه خلق السماوات وزينها وحفظها من دخول الشياطين، فقال في سورة الحجر: «وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ» فقد منع ربنا عز وجل الشياطين من دخول السماوات بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلـم وقد أورد القرطبي في تفسيره قول ابن عباس في تفسير هذه الآية «قال ابن عباس: ( وقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء، فكانوا يدخلونها ويلقون أخبارها على الكهنة، فيزيدون عليها تسعا فيحدثون بها أهل الأرض الكلمة حق والتسع باطل فإذا رأوا شيئا مما قالوه صدقوهم فيما جاءوا به، فلما ولد عيسى ابن مريم - عليهما السلام - منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد - صـلى الله عليه وسلم - منعوا من السماوات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمي بشهاب».، وقال تعالى في سورة الصافات: «وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ»، وقال تعالى في سورة فصلت: «فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ».

وإذا أتينا إلى ملمح آخر من ملامح الحفظ في القرآن الكريم لوجدنا أن سورة يوسف زاخرة بهذا المعنى ففي تلك القصة المشوقة التي لا تمل الآذان والأذهان من سماعها والاستمتاع بحبكاتها فنجد أن موضوع الحفظ حاضر في ثنايا تلك القصة، فنجد أن أخوة يوسف عندما رأوا أباهم يحب يوسف فأضمروا له الغدر والكيد، ولكنهم بادروا أبيهم بالادعاء الكاذب أنهم سوف يقومون بحفظه والعناية به فقالوا لأبيهم في سورة يوسف: «أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، وكذلك قالوا لأبيهم عندما منع منهم الكيل وقيل لهم أحضروا معكم أخيكم من أبيكم فقالوا لأبيهم وهم صادقون في هذه المرة، ولكنهم لم يستطيعوا الإيفاء بهذا الحفظ قال تعالى: «فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، ولكنهم أوردوا موضوع الحفظ ربما لندامتهم لفعلهم السابق في تفريطهم في أخيهم يوسف عليه السلام فعندما وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ووضع لهم الكيل الذي كانوا قد منعوا منه، فقالوا نحفظ أخانا في قوله تعالى: «وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَـذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ» ولكن يعقوب عليه السلام أرسل ابنه الصغير معهم على الرغم من فعلتهم السابقة التي كان يشعر بمكرهم فيها، فقال الله خيرا حافظا في قوله تعالى: «قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ» ولكن أخيهم الأكبر أمرهم بأن يعودوا إلى أبيهم يخبروه بالحقيقة، وأنهم لم يحيطوا بالغيب وهو سرقة أخيهم الأصغر فقالوا: «ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ»

ومن جهة أخرى نجد أن القرآن الكريم يوجه المؤمنين أن يحفظوا أنفسهم ويصونوها من الاقتراب من معصية الزنا، فأمرهم بغض الأبصار وصون الفروج فقال في سورة النور: «قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ». وقد أثنى الله على النساء الصالحات الحافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن فقال تعالى في سورة النساء: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً».

كما أن القرآن الكريم بين لنا أن هنالك من الملائكة من هم موكلون بحفظ الإنسان فقال تعالى في سورة الرعد: «لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ» فقال ابن كثير في تفسيره عن ابن عباس قال: ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه.

وقال تعالى في سورة الأنعام: «وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ». كما بين الله تعالى أن هنالك نوعا آخرا من الملائكة موكل لهم كتابة أعمال بني آدم فقال تعالى في سورة الانفطار: «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ».

كما أمرنا الله عز جل أن نحفظ أيماننا من أن نحلف بالله كذبا أو أن نحنث في حلفنا فقال تعالى في سورة المائدة: «لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

وقد تعهد الله عز وجل بحفظ القرآن الذي أنزله فقال تعالى في سورة الحج: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ» وأمرنا أن نحافظ على الصلوات وبالذات الصلاة الوسطى فقال في سورة البقرة: «حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ».