No Image
إشراقات

د.كهلان الخروصي :أصبح العالم ينظر إلى الإسلام من خلال القضية الفلسطينية وهذا يدل على محوريتها في ذاكرة التاريخ البشري

29 فبراير 2024
نقض دعوى الخصم أحد المناهج القرآنية في التعامل مع القضايا الجوهرية
29 فبراير 2024

نظم معرض مسقط الدولي للكتاب جلسة حوارية استضاف فيها فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عمان، للحديث عن القضية الفلسطينية من منظور ديني، وذلك ضمن برنامج الفعاليات المصاحبة للمعرض. وفي بداية الجلسة طرح فضيلته تساؤلا يتمثل في «ماذا يراد بالقضية الفلسطينية، وماهي الوجوه التي يمكن أن تتناول حينما نتحدث عن القضية الفلسطينية»؟ وأجاب «هناك عدة وجوه، الجانب الدين، الذي لا يخفى عليكم في القضية الفلسطينية، والجانب الجيوسياسي، وهو المعترك الكبير الذي تتصارع فيه القوى، والجانب التاريخي، الذي لا يمكن التغاضي عنه أو إغفاله عند مناقشة القضية الفلسطينية، والجانب المعرفي الفكري، إذا أردنا أن نفصله عن الجانب الديني، وهناك أيضا جانب عاطفي لدى كثير من أتباع الملل وعند كثير من شعوب الأرض، وسنتعرض لهذا الجزء لماما في ثنايا الحديث».

الجوهر

أوضح فضيلة الشيخ أنه: «من أجل ذلك، فإنه لا يمكن أن نتناول في هذه الأمسية الطيبة كل هذه الوجوه، وإنما سنركز على الجانب الديني لأنه في الحقيقة هو الجوهر الذي تدور عليه باقي محاور هذا المعترك السياسي، الجيوسياسي، التاريخي، العاطفي، وما يتعلق بالجغرافيا، الإنسان، الزمان، المكان، والجوهر الذي تنبثق منه كل هذه الفروع هو الجانب الديني، ولذلك سيكون حديثنا منصبا على هذا الموضوع وهو العنوان الذي أريده لهذا اللقاء».

قضية العالم

وقال: هل رأيتم قضية يشتغل بها العالم أجمع كالقضية الفلسطينية؟ هل رأيتم مسألة يتابعها العالم كله ويسأل عنها ويصطف فيها ويأخذ فيها مواقف ويدلي فيها بدلوه كالقضية الفلسطينية؟ لا يوجد حتى من قضايا المسلمين أنفسهم، فتعرضت أفغانستان لاحتلال وأخذت حيزا من اهتمامات المسلمين وشغلت المسلمين برهة ولا تزال لكنها لم تشغل العالم كله ولم تؤد إلى استقطابات ولم تدخل إلى مواقف وإلى تغيير في الرؤى ودخول في إشكاليات سياسية جيوسياسية، زمانية، فكرية، معرفية أبدا، ألا يدل هذا على محورية القضية الفلسطينية؟

ألا يدل هذا على أن القضية الفلسطينية ليست قضية عابرة، وليست حدثا سياسيا في بقعة من الأرض؟ ليست مجرد صراع بين جهتين؟ لا.. القضية أكبر من ذلك ولذلك أنتم ترون اليوم أن العالم كله مشغول، وكل أخذ من القضية بطرف، يكفينا أن الطرف الغالب في اهتمام العالم هو العناية بالإسلام والقرآن وهذا لا يخفى على أحد، أصبح العالم.. المؤثرون فيه والناشطون الاجتماعيون في وسائل التواصل الاجتماعي وكبار المنظرين، ينظرون إلى الإسلام وإلى القرآن وإلى المسلمين من خلال هذه القضية وهذا يدل على عمق هذه القضية في الضمير الإنساني الجمعي ومحورية القضية الفلسطينية في ذاكرة التاريخ البشري بلا منازع.

الحجج والبراهين

وأنا لا أريد أن أتحدث عن القضية في بعدها الديني أو في مكونها الديني وقلت: إنه الجوهر لهذه القضية ليس من منطلق عاطفي، بل أنا أحذر من التعامل مع هذه القضية ومحاولة بناء مواقف أو الرد على شبهات أو دحض أباطيل من منطلق عاطفي لا يصلح العالم، يرقب ويحاور، العالم بحاجة إلى حجج وبراهين ولذلك سأتعامل مع هذه القضية معكم قدر المستطاع بما هو واضح وسهل ومقدور على تصوره وفهمه من منطلق استراتيجي يبني لنا أصلا معرفيا متينا يكوّن لنا رؤية واضحة، يمكننا بإذن الله تبارك وتعالى دحض شبهات العدو ورد أباطيله وكشف تزويره وزيفه، كما أنه يبعث فينا الرغبة في مزيد من التعرف على هذه القضية بمختلف مكوناتها المعرفية والفكرية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية وسائر الوجوه، ولا بد أن نتعامل مع هذه القضية على هذا المستوى لأنها كما تعرفون قضية عقيدة، وقضية دين، ليست قضية وطنية، وليست قضية عابرة، وليست قضية قومية، لا ..هي قضية دينية بامتياز، وهي قضية عقيدة، ولذلك قضايا العقيدة لا يتعامل معها باستخفاف، لا بد من وعي ومعرفة ولا بد من إتقان وضبط.

تأصيل معرفي

لماذا يصر الصهاينة وأعوانهم من القوى الكبرى في العالم على فلسطين ويتمسكون بها ويتوحشون في النكاية والظلم والجبروت على أصحاب الأرض؟ لأنهم يدّعون أنها ميراثهم وأنهم مُلّكوا إياها وأن من سواهم إنما هو دخيل وفي أحسن الأحوال ما هم إلا غرباء، وإلا فلو نظرنا إلى التأصيل الديني، فإنهم كما صرح ساستهم وكثير من مفكري الصهاينة ينظرون إلى غيرهم على أنهم عبيد لهم إن ارتقوا عن مستوى الحيوانات البشرية، إذن المنطلق الذي ينطلقون منه هو حقهم الديني التاريخي المقدس في تلك البقعة، هل عندهم شيء آخر غير هذا؟ طبعا يحشدون لهذا، هذا هو العنوان البارز، يحشدون له أدلة من عندهم، ما هي الطريقة لمناقشة هذه الدعوى؟ هناك منهج قرآني، لما قلت إننا بحقكم، فإننا نحتاج إلى منهج استراتيجي تأصيل معرفي فكري في تناول هذه القضية، لن ينفع أن تقول ستبدأ من مؤتمر بازل 1897 أو ستبدأ من وعد بيلفور أو من أين ستبدأ؟ لا ينفع ذلك، لأنه هو سيرجع بك إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول لك إن الله تعالى أعطى إبراهيم وذريته ونسله هذه الأرض، فلم يأت بنا وعد بيلفور لم يأت بنا هيرتزل لم تأت بنا الحركة المسيحية الصهيونية هذا حق أصيل لنا، فلنعرض حجتهم في أكلح صورها، إذا أردنا فعلا أن نتعامل مع القضية بإنصاف قد يكون هذا الكلام صادما، أرى صدمة في وجوهكم لكن هذا هو الواقع، وهذا هو الذي يقولونه.

المنهج القرآني

من المناهج التي علمنا إياها القرآن الكريم في التعامل مع القضايا الجوهرية مع قضايا العقيدة مع قضايا الإيمان بالله تبارك وتعالى واليوم الآخر ونصب الحجج والبراهين على صدق دين التوحيد أن ننقض دعوى الخصم من داخلها وأن نظهر التناقض حتى لا يبقى للدعوى أي باقية، القرآن الكريم يعلمنا ذلك فيقول: «أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»، « أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى» فهو يعلمنا لما يرد عليهم إلا بتناقض الدعوى نفسها، فلنتعلم في نهضة الوعي والمعرفة التي نحتاج إليها أن نستعمل هذا الأسلوب القرآني.

وأنا سأقرأ عليكم النص الوارد في كتبهم المقدسة في هذا الوعد الذي أعطاهم ويزعمون أن الله تعالى أعطاه لإبراهيم الخليل عليه السلام قال: «في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام أي إبراهيم ميثاقا قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات».

إذن هذا ميثاق عندهم من الرب في الكتاب المقدس صحيح؟ هذا هو المستند الذي يرجعون إليه، هناك يعني إذا تجاوزنا من باب الإنصاف، هناك نصوص توراتية يمكن أن يفهم منها مناقضة لهذا حتى في هذا نفسه، ففي سفر التكوين «ولما صارت الشمس إلى المغيب وقع على أبرام السبات وإذا رعبة مظلمة عظيمة واقعة عليه فقال لأبرام اعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم ويستعبدون لهم فيذلونهم أربعمائة سنة»، شراح التوراة يقولون إن هذا النص يقصد به مصر ولذلك أنا تجاوزته لأن هذا النص حجة عليهم «اعلم يقينا أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليست لهم»، لسنا بحاجة إلى أن نحفظ هذه النصوص ولكن نحن متفقون على أن المستند الذي يستندون إليه هو أن الله تبارك وتعالى أقطع هذه الأرض لإبراهيم عليه السلام ونسله وهم يقصدون بنسله إسحاق ويعقوب ومن جاء بعدهم، هذا هو أقوى ما يستندون إليه دينيا.

تناقض الدعوى

سنبدأ بكشف تناقض هذه الدعوى من داخلها، الأمر الأول مضى إبراهيم عليه السلام وإسحاق ويعقوب ويوسف والأسباط عليهم السلام إلى موسى وهارون عليهما السلام إلى يوشع إلى داود عليه السلام إلى سليمان عليه السلام وباستثناء النبيين الكريمين الأخيرين داود وسليمان عليهما السلام، فلم يكن أحد من عظماء أنبيائهم ملتفتا أو ساكنا أو مقيما أو مستقرا في هذه البقعة، أقطع الرب جل وعلا إبراهيم حسب زعمهم أقطعه إياها.

كيف فات إسحاق ويعقوب ويوسف عليه السلام ثم الأسباط ثم أنبياء بني إسرائيل إلى موسى وهارون، أن الله تبارك وتعالى قد أعطى هذه الأرض لإبراهيم ولم يقم فيها مكانا لليهود شيئا، لأن الهيكل حسب زعمهم، إنما بناه سليمان بن داود عليه السلام، هذه القضية، رأيتم التناقض؟.

وهم ينتسبون إلى إسرائيل وهو يعقوب عليه السلام ونحن نعرف أن إسرائيل عليه السلام ذهب إلى مصر والتقى بيوسف عليه السلام كيف لم يرجع وهو يعلم أن الرب جل وعلا قد جعل لإبراهيم ونسله تلك الأرض، طبعا يقولون: إنه أوصى أن يدفن إبراهيم عليه السلام كذلك طلب من سكان الأرض بقعة ليدفن فيها واستأجرها منهم هو وزوجه ليدفنا فيها، هذا إبراهيم الذي أقطعه الله تبارك وتعالى تلك الأرض، إذن الدعوى متناقضة من ذاتها، لأن أحدا من أنبياء بني إسرائيل، أحد من أنبياء الله الذين ينتسب إليهم بني إسرائيل لم يكن قبل سليمان وداود عليهما السلام في هذه الأرض كان لهم وجود، في فترات تاريخية متقطعة، لكن سنتعرض لذلك، والحاصل أنها إذا كان هذا ميثاق من الرب، فكيف فات الأنبياء والرسل الذين ينتسب إليهم بني إسرائيل أن هذا ميثاق من الرب وأن عليهم أن يحيوا شعائر هذه الملة في تلك الأرض التي يقطعوا إياها، أليس هذا ينقض الدعوى من أصلها؟

الهيكل المزعوم

الأمر الثاني طبعا الهيكل، هو أقدس المقدسات عندهم، تعرفون أنهم يسمونه بيت الرب، لكن أقدس المقدسات لا يعرفون مكانه لا يعرفون موقعه ولا يعرفون صفته، ومما يتكون، وكيف بني، ما الذي يشتمل عليه، كيف هو من الخارج، كيف هو من الداخل، كيف أماكن العبادة فيه ودور العبادة فيه، هل فيه محاريب، هل فيه قاعات، هل فيه مذبح، هل فيه مطهر مغسلة؟؟ لا يعرفون شيئا إلى الآن، عندهم خلاف واسع عند مؤرخيهم والمتدينين والحاخامات وأرباب الصهيونية واليهودية إلى الآن عندهم أقوال عديدة جدا لكن من الأقوال المتصلة بفلسطين والمسجد الأقصى وأشهر ثلاثة أقوال إنه مكان المسجد الأقصى، والقول الثاني إنه عند قبة الصخرة، والقول الثالث إنه عند جدار البراق كما يسمونهم حائط المبكى، في الصالة الخارجية لحائط المبكى، هناك بعض الأقوال الموجودة عندهم أنها خارج فلسطين، ولا تستبعدون حينما يمكّن الله تبارك وتعالى أهل الحق من الفتح المبين أنهم سيظهرون دعوة أخرى والله أعلم من سيبتلى بهم.

لكن الحاصل أنه لا يوجد أصحاب ملة سماوية أو حتى دين وضعي أرضي لا يعرفون مكان أقدس مقدساتهم، وهؤلاء الآن أكثر ما يقرب من مائة سنة يعني عمليات الحفريات والبحث ابتدأت قبل 48 ابتدأت مع بداية القرن العشرين قبل 1900 بقليل ظهرت أكثر بعد الحرب العربية، إلى حد أنه في 1929 عصبة الأمم في ذلك الوقت شكلت لجنة بسبب دعوى الصهاينة، فيما يتعلق بحائط البراق وحارة المغاربة بأنها إرث صهيوني يهودي وكان قرار عصبة الأمم التي مكثت لجنتها شهرا في فلسطين وسمعوا الشهادات والمرافعات والدعاوات أن هذه أرض فلسطينية ترجع للمسلمين لا علاقة لهم بها ما وجدوا حتى حصة تثبت أن هذا المكان هو موقع الهيكل.

في المقابل لو أتينا بطفل متعلم من أبناء المسلمين وسألوه عما في المسجد الأقصى أو أي مهتم بالقضية؟ سيخبركم عن مكونات المسجد الأقصى حجرا حجرا، زاوية زاوية، شجرة شجرة، لا يقتصر الأمر على حد أن يعرفكم بها في حدود السور لا حتى الحجارة التي بنيت بها من أين أتى بها، هل تظنون أن سيدنا عمر بن الخطاب لما دخل فاتحا -رضي الله تعالى عنه- كان يبحث أين مكان مسجد الأقصى؟ يصف المؤرخون المسلمون، -ابن كثير- في «البداية والنهاية» أنه دخل من الباب الذي دخل منه رسول الله صـلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء وأنه صلى ركعتين عند محراب داود لم يكن هناك مبنى، ويصفون كيف دخل؟ فابن كثير يقول إنه دخل ملبيا وأنه صلى ركعتين ثم صلى بالمسلمين الغداة، وكتب السير تذكر ما الذي قرأه في صلاة الغداة، يعرفونه لأنه مسجد، بيت من بيوت الله مع أنه هدم وحطم، نبوخذ نصر فعل فيه الأفاعيل ولكن مع ذلك بقي المسلمون الموحدون جيلا بعد جيل يعرفون أنه مسجد.

الوثيقة العمرية

فإن قال قائل إن المسلمين أخذوه من اليهود افتراضا لما فتحوا القدس، فكيف أبقى المسلمون كنائس النصارى واستولوا على دور عبادة لليهود؟ كنائس النصارى باقية موجودة، والتاريخ الذي حكاه المسلمون والذي حكاه النصارى أن طلب إقصاء اليهود من بيت المقدس لم يكن بشرط من المسلمين كان بطلب من نصارى فلسطين، لأن اليهود لما كانت القدس تحت الحكم الفارسي كانت هنالك حامية من بضعة آلاف وقيل تزيد على عشرة آلاف حامية يهودية في جيش الفرس المجوس، وهذه الحامية اليهودية هي التي عاثت الفساد في بيت المقدس في فلسطين وكانت إدارة الشأن المحلي للقدس في زمن الفرس بيد اليهود، ولذلك لما نزلت « الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ ۗ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ۚ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ». لما كانت رحلة الإسراء كان القوة الغالبة والمتحكمة هم الفرس ولم يكن الرومان، لكن الإدارة المحلية كانت بيد اليهود، واليهود طلبوا من قواد الفرس المتغلبين أن يهدموا الكنائس، واعترض على ذلك النصارى العرب الموجودون في جيش الفرس، هم الذين دافعوا عن مقدساتهم، لكن المسلمين لما فتحوا القدس، وأنتم تعلمون أن سيدنا عمر بن الخطاب لما دخل المدينة المقدسة دخلها صلحا، وكان مما اشترطه النصارى في الوثيقة العمرية ووافق عليها عمر هو أن لا يسكن فيها اليهود.