No Image
إشراقات

الاعتدال في الإنفاق في القرآن الكريم

30 يونيو 2022
تأملات قرآنية
30 يونيو 2022

المتأمل في كتاب الله يجده ينتهج منهج الوسطية والاعتدال، فلا إسراف ولا تقتير، في كل شأن من شؤون الحياة، ولا سيما المتعلقة بحياة الناس ومعايشهم، وهو منهج حكيم أراده الشارع لعباده، حتى يربي فيهم صفة العدل والقسط، وتأدية الحق لكل ذي حق، وهو إلى جانب ذلك يهبهم الحكمة في تدبير الأمور، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا.

وحينما ننظر إلى أحوال الناس ومعايشهم وما يمرون به من ظروف وأحوال اقتصادية، كما هو الواقع اليوم، نجدهم لا يولون جانب الحكمة في الإنفاق اهتماما، فتجدهم يحملون أنفسهم فوق قدرتهم المالية فيقعون ضحية ديون ومطالبات قد تصل إلى تضييع الحقوق، وعدم تسديد الديون، وتضييع الأمانات، وهذا عائد بالوبال على المجتمع بأسره، فلا يأمن الرجل على ماله إذا أقرضه، ولو التفت الإنسان إلى أحواله المعيشية وقام بتدبيرها وفق قدراته المالية والمعيشية لكفاه ذلك هم الدين والدائنين.

ولو تأملنا في كتاب الله لوجدنا أنه يأمر المؤمنين أن ينتهجوا منهجا عدلا في الإنفاق قائما على تقدير الأحوال، فينفق ذو سعة من سعته في ما يرضي ربه ويسد به حاجته، غير مقتر ولا مبذر، فقال ربنا سبحانه وتعالى في سورة الطلاق: «لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا» أي لينفق ذو سعة من المال على المولود من ماله، ولكن إن كان رزقه قليلا فلينفق مما آتاه الله، والله لا يكلف العباد إلا ما آتاهم ووعدهم ربنا عز وجل وهو أوفى واعد بأنه سيجعل لهم بعد العسر يسرا، وهنا نجد الأمر الرباني يراعي أحوال الناس ومعايشهم وقدراتهم المالية، في دلالة واضحة على دعوة الناس أن يراعوا أحوال معيشتهم، ولا يكلفوا أنفسهم وأحوالهم ما لا يطيقون.

وفي آية أخرى نجد ربنا حدد هذا الأمر وجعل له ميزانا دقيقا، وهو الوسطية والاعتدال فقال ربنا تبارك وتعالى في سورة الفرقان: «وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا» فجاء هذا الوصف الدقيق ليمتدح ويصف ما يقوم به المؤمنون الذين استحقوا وصف الإيمان وعدد الله مناقبهم، وهو وسطيّتهم والحكمة التي آتاهم الله إياها في الإنفاق، فهم إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يبخلوا بل يكون إنفاقهم وسطا بين الإسراف والإقتار، فهم يؤدون حق المال في ما ينتفع به ويرضي ربنا عز وجل.

بل نجد الشارع الحكيم عز وجل شدد في وصف المبذرين، ونعتهم بنعوت يستحقونها فقال عز من قائل في سورة الإسراء: «إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا» فلماذا وصف الله المبذرين بأنهم إخوان للشياطين، لأن المبذر يبدد نعمة الله التي جعلها لعباده، ولا يؤدي حق المال، فهو يبدده في غير محله، فيصرفه في ما لا يرضي ربنا ويتجاوز الحد في السرف، وحق النعمة شكران المنعم، ويكون شكرانه بحفظ هذه النعم والاستفادة منها استفادة تعود على الناس بالخير، ولا يكون حق المال بتبذيره، المبذرون يتشابهون مع الشيطان في الجحود بالله وعدم الشكر، وهي صفة ذميمة تدل على لؤم صاحبها، وبعده عن المنهج القويم الذي رسمه الله له في الاستخلاف في الأرض ولا يكون هذا الاستخلاف إلا بحفظ الموارد وعدم العبث بها، فالموارد ملك لجميع أفراد المجتمع، فلا يحق بحال من الأحوال أن يقوم شخص بتبديد النعمة لأجل أنه يملك مالا وفيرا، وقد عرفت المجتمعات التي تحكمها الأنظمة والقوانين الصارمة التي تراعي مسألة حفظ الموارد أنها حق للجميع، وتضع حوله الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تحاول أن تنظم هذا الأمر، ومن غريب ما قرأته أن أحد الطلبة الذين يدرسون في إحدى الجامعات الغربية المرموقة، قد استضاف أحد أصدقائه لزيارته في تلك الدولة، وقام بعزيمته في أحد المطاعم، وكعادة بعض العرب أنهم من باب الكرم يحضرون من الطعام المتنوع والكثير لإبراز جانب الكرم، فطلبوا مجموعة من الوجبات في ذلك المطعم، ولكنهم لم يكملوها، وعندما هموا بالانصراف تفاجأوا بشرطة البلدية تحرر مخالفة مالية عليهم، بعد أن أبلغ أحد رواد المطعم عنهم أنهم طلبوا طعاما كثيرا يفوق احتياجهم، فعندما أخبروا الشرطي بأنهم أحرار في أموالهم كيف يصرفونها، فأجابهم نعم ولكن المصادر ملك للجميع ولا يحق لكم تبديده. ولو قارنا هذا الموقف بما يحصل في مجتمعاتنا العربية أثناء المناسبات لوجدنا أننا نبدد الموارد من الطعام واللحوم وغيرها أثناء المأدبات ويكون مصيرها حاويات القمامة.

وهذا لا يعني أن المسلم لا ينفق أمواله إلا للضروريات، بل التفت الإسلام إلى تحسين الهيئة والجانب الكمالي في الحياة، المتعلق بالمظهر الحسن واستخدام الطيب والعطور، وهي من الزينة التي أباحها الله وحض عليها، فقال ربنا عز وجل في سورة الطلاق: «يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)» فأمر الناس بأخذ الزينة ليس في يوم الجمعة مثلا أو عند مساجد مخصوصة بعينها بل قال عند كل مسجد، ولو تأملنا توزيع الصلوات في اليوم والليلة التي يذهب فيها المؤمن إلى المسجد، لنجد أنه مطالب بأن يكون في زينته من المظهر الحسن والثوب النظيف، والرائحة الزكية، في كل أوقات يومه، ولكن الإسراف هو الذي حرمه الله، والإسراف هو بطر الحق، وتجاوز الحد، وغمط الناس.

حتى في مسألة الإنفاق في الخير نجد القرآن الكريم ينتهج منهج الوسطية في ذلك، فنجده يأمر رسوله الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- بقوله في سورة الإسراء: «وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا» يقول الطبري في تفسيره: «ولا تمسك يا محمد يدك بخلا عن النفقة في حقوق الله، فلا تنفق فيها شيئا إمساك المغلولة يده إلى عنقه، الذي لا يستطيع بسطها، (وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ) يقول: ولا تبسطها بالعطية كلّ البسط، فتَبقى لا شيء عندك، ولا تجد إذا سئلت شيئا تعطيه سائلك «فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا» يقول: فتقعد يلومك سائلوك إذا لم تعطهم حين سألوك، وتلومك نفسك على الإسراع في مالك وذهابه، محسورا: يقول: مَعِيبا، قد انقُطِع بك، لا شيء عندك تنفقه».