No Image
إشراقات

الاستغفار في كتاب الله

01 يونيو 2023
تأملات قرآنية
01 يونيو 2023

عندما يدعو الله عز وجل إلى عبادة مخصوصة ويحض عليها ويأمر بها أنبياءه وعباده أجمعين، ويكرر الحض عليها، ويرغب فيها ويبين ثمارها، فاعلم أنك أمام عبادة جليلة، سهلة في الأداء عظيمة في الثواب، وهي عبادة الاستغفار، ومعناها طلب الصفح والعفو والغفران من الله تعالى لما أحدثه العبد من أخطاء في حق خالقه، فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

ولو تأملنا في هذا المصطلح لوجدنا أن الله عز وجل قرنه باسم من أسمائه الحسنى وهو «الغفور» الذي أتى بصيغة المبالغة أي تجاوز الحد في الغفران، بل وسمى الله به سورة من سور كتابه الكريم وهي سورة «غافر»، التي وصف الله فيها ذاته العلية، وعرفها بأنه غافر الذنب قابل التوب قبل أن يكون شديد العقاب ذا الطول، فقد سبقت مغفرته عقابه، تحببا إلى خلقه، ودعوة منه لهم للرجوع إليه، فقال تعالى في سورة غافر: «غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ».

بل نجده جل وعلا يتحبب بوصف ذاته العلية إلى عبادة بعد دعوتهم بالاستغفار فقال تعالى في سورة هود على لسان نبيه شعيب عليه السلام في دعوته إلى قومه فقال: «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ» فوصف الله بالرحمة والود بعد الدعوة إلى الاستغفار، وهذه غاية الرفق في الدعوة.

والاستغفار من صفات المؤمنين الذين وصلوا درجة الإحسان في الإيمان فهم كثيرو الاستغفار سريعون إليه فقال عز وجل في معرض ذكرهم في سورة آل عمران: «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ». وكذلك وصف المتقين المحسنين في سورة الذاريات فقال عز وجل: «وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»

ونجد أن الله عز وجل أمر نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بالاستغفار، وحثه عليه فقال عز وجل في سورة النساء: «وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا»، بل وأمر نبيه بعد نصره إياه على قومه، ودخول الناس أفواجا في دين الله أمره بالتسبيح والاستغفار فقال تعالى في سورة النصر: «فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا»، وأمره بالاستغفار بعد الصبر في سورة غافر فقال تعالى: «فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ».

في حين أن الله قرن رحمته بأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم تعذيبه لهم بوجود الرسول الكريم بينهم، والأمر الآخر الذي لو قاموا به فإنه لا يعذبهم وهو الاستغفار فقال تعالى في سورة الأنفال: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ»، وهذه إحدى أعظم ثمار الاستغفار، وهي أنه يدفع العذاب والبلاء من الله.

ولو لم يكن للاستغفار إلا محو الذنوب وتجاوز الله عما بدر من عباده لكفى، ولكن لكرم الله وفضله ومنّه، جعل للاستغفار ثمارا بيَّنها في كتابه العزيز، فقال تعالى في سورة هود على لسان نبيه هود عليه السلام: «وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ» فبين لهم أن ثمر الاستغفار والإنابة إليه أنه ينزل القطر من السماء وهو فتح لأبواب الرزق، ويزيدكم في القوة والغلبة والكثرة.

وأكد الله على هذه الثمار في سورة نوح، عندما أمر نوح قومه بأن يستغفروا ربهم فقال: «فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا» وأتبع ذلك بتبيان ثمرة الاستغفار فقال: «يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)» فقد أخبرهم بأنه سينزل المطر عليكم، ويفتح عليكم أبواب رزقه من الأموال والبنين، ويرزقكم الحدائق والمزارع الغناء الخضراء، التي تجري من بينها الأنهار.

حتى الملائكة عليهم السلام يستغفرون الله عز وجل ولكنهم لا يستغفرونه لأنفسهم فهم معصومون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولكنهم يستغفرون للمؤمنين، وهذا من كرامة الله للمؤمنين أن جعل ملائكته الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون الله ويستغفرون للمؤمنين فقال تعالى في سورة غافر: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ».

ويؤكد الله على هذا الأمر من استغفار الملائكة للمؤمنين بقوله في سورة الشورى: «تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ». فأي رحمة وأي فضل وأي مغفرة للمؤمنين وهم حتى الملائكة المكرمون يستغفرون لهم.

بل ونجد الله عز وجل يأمر نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم بأن يستغفر للمؤمنين فقال تعالى في سورة آل عمران: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ»، وقال في سورة النور: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ». وقال ربنا في سورة محمد: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ»

وقال ربنا في مبايعة المؤمنات للرسول صلى الله عليه وسلم في سورة الممتحنة: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

في حين بين الله عز وجل بأنه لن يغفر لطائفة من الناس بعد وفاتهم حتى لو استغفر لهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون الذين ماتوا على نفاقهم، وفسقهم فقال ربنا تبارك وتعالى في سورة التوبة: «اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

وذكر الله نماذج من الأمم السابقة التي أمرهم رسلهم بأن يستغفروا ويتوبوا إلى الله، فذكرنا هودا ونوحا، وكذلك نجد صالحا عليه السلام يخاطب قومه ثمود ويأمرهم بأن يستغفروا ربهم فقال تعالى في سورة هود: «وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ».

وفي قصة يوسف عليه السلام ورد ذكر الاستغفار مرة في دعوة يوسف لامرأة العزيز أن تستغفر لذنبها، فقال في سورة يوسف: «يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ» ومرة في طلب أخوة يوسف أن يستغفر لهم أبوهم يعقوب عليه السلام مما بدر منهم تجاه أخيهم فقال تعالى: «قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ».

ونجد النبي داوود عليه السلام يستغفر ربه بعد أن ظن أن الله فتنه في الحكم بين الخصمين فاستغفر ربه، فقال تعالى في سورة ص: «قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ».