إشراقات

الإصلاح في القرآن الكريم

20 أكتوبر 2022
تأملات قرآنية
20 أكتوبر 2022

المتأمل في كتاب الله وما يحويه من أوامر ونواهٍ هي بمثابة منهج حياة للإنسان يسعى إلى امتثالها وتطبيقها في حياته لكي يسعد في الدارين، ومن هذه الأوامر التي حض عليها القرآن الكريم وأمر بها، هو أمر الإصلاح، فنجده يذكر هذا الأمر في مواضع مختلفة وجوانب متعددة، فالإصلاح في الأرض هو جانب من عمرانها، وهذا يتناسب مع استخلاف الله للإنسان في هذه الأرض، وكذلك نجد الإصلاح في العمل الذي يكون ديدن المؤمن، والإصلاح الذي يعقب التوبة، فالتوبة هي نقطة التحول من المعاصي التي هي إفساد في حد ذاتها إلى إصلاح الأمر وانقياد لله، وهنالك جوانب مختلفة من الإصلاح نستعرضها مع السياق الذي وردت فيه بين ثنايا آيات الكتاب الحكيم.

وبما أن أمر الإصلاح هو أمر أزلي طالب الله به الإنسان منذ أن أوجده على هذه البسيطة، فقد أمر به الأمم السابقة منذ آدم عليه السلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فنجد الكتاب العزيز يذكر في سورة الأعراف هذا الأمر ويقرن تقوى الله عز وجل بالإصلاح وهو أمر جامع نتيجته النجاة في الدنيا والآخرة، فقال تعالى مخاطبا بني آدم: (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، فكل الرسل الذين يرسلهم الله إلى أقوامهم يأمرونها بدعوة الإيمان والإصلاح وهي حقيقة أخبرنا الله بها في سورة الأنعام فقال ربنا سبحانه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، مؤكدًا النتيجة التي يتحصلون عليها بعد قيامهم بهذا الأمر بأنهم لا خوف عليهم في الدنيا، وهم يحزنون في الآخرة.

وأورد القرآن الكريم نماذج من للرسل ودعوتهم لقومهم بأن يعملوا صالحا، فقال تعالى في سورة الأعراف: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) فهناك نجد ابتداء قصة ميقات الله لموسى وهو أربعين ليلة، وطلب من أخيه هارون أن يخلفه في قومه وأن يصلح ولا يتبع المفسدين، فحدث ما كان يحذر منه موسى وهو ضلال قومه بعد إيمانهم وذلك بفعل السامري وإخراجه لهما العجل الذي عبدوه من دون الله في القصة المشهورة.

وموقف آخر لموسى عليه السلام ودعوته إلى الإصلاح وذلك في مواجهته للسحرة في التحدي الذي كان بينه وبين سحرة فرعون، فقال تعالى في سورة يونس: (فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) فكان موسى موقنا بنصره وتأييده من الله عز وجل، وهو في حالة التحدي والمناجزة، للقاعدة التي أوردها وهي أن الله لا يصلح عمل المفسدين.

وكذلك يورد الكتاب العزيز قصة أخرى حدثت لموسى عليه السلام وذلك عندما وجد رجلان يقتتلان أحدهما من بني إسرائيل والآخر من قوم فرعون فضرب موسى الرجل من آل فرعون فقتله، ولكن موسى تفاجأ بالرجل الذي ساعده بالأمر من بني إسرائيل يشتبك مع رجل آخر من آل فرعون، فقال له إنك غوي مبين، وأنه هو الذي يبتدئ الناس بالشر، وحكى الله تلك القصة في سورة القصص فقال: (فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) وقد اختلف المفسرون في تفسير هذه الآية، فبعضهم قال: إن هذا القوم الموجه إلى موسى والذي أعقبه بقوله وما تريد أن تكون من المصلحين، هو قول الرجل من بني إسرائيل الذي ساعده موسى بالأمس، فهو خاف أن يبطش به موسى لبدئه بالشر والقتال مع الناس، وقال مفسرون آخرون: إن الذي قال هذا القول هو الرجل من آل فرعون، فقد انتشر خبر قتل موسى لصاحبه، فلذلك هرب موسى بعد هذه الحادثة إلى أرض مدين.

ولكن الله عز وجل ذكر أيضا أمر الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فقال في سورة الشعراء: (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ) وقد أورد الله هذه الآية في معرض ذكره لقوم ثمود الذين مكّن الله هم في الأرض ورزقهم من الطيبات وآتاهم من القوة ما جعلهم ينحتون من الجبال بيوتا يتفننون في تصميمها وزخرفتها، وكانوا قوما جبارين، وأعرضوا عن دعوة الحق التي عرضها عليهم نبي الله صالح، وكان في هؤلاء القوم تسعة أشخاص يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وذلك من خلال ما يأتونه من الفواحش والمعاصي، والفساد الذي يعيثونه في الأرض، وهو ما جعلهم يتجرؤون على معجزة الله التي طلبها قومهم دليلًا على نبوة النبي صالح -عليه السلام- فعقروا الناقة، وقد أورد الله عددهم في آية أخرى في سورة النمل حيث قال الله تعالى: (وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ).

وفي موضع آخر من مواضع الإصلاح في القرآن الكريم نجده مرتبط ارتباطا وثيقا بالتوبة إلى الله، فنجد هذا الأمر متلازم فعندما تذكر التوبة يذكر الإصلاح، فقال تعالى في سورة البقرة: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)، وقال ربنا الرحمن الرحيم في سورة آل عمران: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ للَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فالتوبة من الذنوب جميعها، وإصلاح العمل، فإن رحمة الله وغرانه يصله ويشمله، وهذا ما أكدته أيضا الآية الكريمة في سورة النحل: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) وكذلك قوله تعالى في سورة النور: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).

وقد ذكر ربنا الرحمن الرحيم هذا الأمر صراحة وأمر به عباده ورغبهم فيه وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يبلغه للمؤمنين فقال في سورة الأنعام: (وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) فالله كتب على نفسه الرحمة، فمن يلجأ إليه ويعود له يجد الله غفورا رحيما.

وكذلك الذين ظلموا أنفسهم بمعصيتهم لله أو ظلموا غيرهم ثم تابوا وأصلحوا ما أفسدوه من قبل وأرجعوا الحقوق إلى أصحابها فأولئك يتوب الله عليهم فقال تعالى في سورة المائدة: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وقال تعالى في سورة النساء: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا).

وجوانب الإصلاح تشمل جميع نواحي الحياة، ولكن القرآن ركز على نماذج منها فنجده يدعو إلى إصلاح أمر اليتامى فقال في سورة البقرة: (فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).

وكذلك الإصلاح بين الزوجين فقال تعالى في سورة النساء: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) وقد أقام الله قاعدة في حل القضايا العالقة بين الناس وهي «الصُّلْحُ خَيْرٌ» فهو يقرب وجهات النظر ويردم الفجوات التي أحدثها الخلاف، ويقيم الأمر بالتراضي. وكذلك أمر الله الزوج الذي يوجد عنده أكثر من زوجة بأن يعدلوا ويصلوا ويتقوا الله فقال تعالى في سورة النساء: (وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا). وقد حض الله تعالى على العفو والتجاوز والصفح فقال في سورة الشورى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

كما دعا الله عباده من المؤمنين أن يصلحوا بين الطوائف المتقاتلة، فقال تعالى في سورة الحجرات: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وكذلك الدعوة إلى الإصلاح بين المؤمنين فهم إخوة فقال ربنا تبارك وتعالى في سورة الحجرات: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).

ومن القواعد الإلهية التي أكدها الله في كتابه العزيز ما جاء في سورة هود وهو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) فالله تعالى هو العدل فلا يمكن بحال من الأحوال أن يظلم قوم بإهلاكهم وهم مصلحون.