إشراقات

الأضحية والتقوى

29 يونيو 2023
29 يونيو 2023

ما إن تدخل العشر الأوائل من شهر ذي الحجة إلا وتجد المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يبحثون عن الأضاحي التي يقدمونها في يوم النحر الأكبر، في شعيرة إسلامية تجسد الكثير من المعاني والدلالات العميقة التي أطلعنا عليها القرآن الكريم في قصة الذبيح إسماعيل مع أبيه الخليل إبراهيم عليهما السلام، وهذه الشعيرة التي يحرص المسلمون عليها تأتي مع يوم العيد الذي سمي باسمها، وهو يأتي مع تقديم الحجاج لهديهم في يوم النحر في العاشر من ذي الحجة، بعد أن وقفوا في عرفات في اليوم الذي قبله.

ولو تأملنا هذه الشعيرة العظيمة لوجدنا فيها الكثير من معاني الانقياد والطاعة والتضحية لنيل رضا الله تبارك وتعالى ورحمته، وهذا يرتبط ارتباطا وثيقا بالقصة الإبراهيمية وما تبعها من أعمال قام بها الرسول محمد صلى الله عليه وسلـم وما أمر به أمته عليه الصلاة والسلام.

فالخليل إبراهيم عليه السلام امتثل لأمر الله وانقاد له بعد أن رأى في المنام أنه يذبح ابنه إسماعيل عليه السلام، ورؤيا الأنبياء حق، فقال تعالى في كتابه العزيز في سورة الصافات: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110)".

والتعبير القرآني كشف تفاصيل هذه القصة فبعد أن شب ابنه إسماعيل وأصبح يرافق أباه ويعينه ويساعده ويمشي معه، رأى إبراهيم عليه السلام تلك الرؤيا التي كانت بمثابة الابتلاء والاختبار له، فامتثل أمر الله وانقاد له لعلمه يقينا أنه لله نفسه وماله وولده، وهو إلى ربه راجع، فكان تسليمه وانقياده لذلك الأمر، مع حسن التدبير والتصرف، فهو لم يأت على ولده ويذبحه على حين غرة، ولكن لأن الأنبياء صفوة الخلق، وأكثرهم رحمة على قومهم فكيف على ابنه، فأراد من ابنه أن يعينه على هذا البلاء المبين كما وصفه الله عز وجل، فإسماعيل عليه السلام نبي من أنبياء الله، فدخل في الاختبار مع أبيه، وكان نعم ما فعل وهو امتثال أمر الله وطاعة أبيه في ما يريد، ولو أن هذا الفعل لا يطيقه إلا من أعانه الله على تأديته، فقال لأبيه افعل ما تؤمر ستجدني بعون الله ومشيئته من الصابرين، المحتسبين، وهذا غاية الانقياد والامتثال لأمر الله وقضائه، فهم مستسلمون للإرادة الإلهية منقادون لها " فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ"، ولهول هذا الموقف وشدته، ولرحمة الابن لبنيه جعل وجه ابنه جهة الأرض "تله للجبين" لكي لا ينظر الأب إلى وجه ابنه وعيناه فيجزع من تنفيذ الذبح، ولكن الله عز وجل أرحم بعباده من أنفسهم، فجاءه النداء الإلهي يبشره بالفوز في هذا البلاء قبيل تنفيذه، وينقذ الله إسماعيل عليه السلام من شفرة سكين الطاعة، وأنه قد صدق الرؤيا ونفذها ولو أن رحمة الله حالت دون تنفيذها، ولكن لعلم الله بنية إبراهيم عليه السلام وابنه وعزمهما في الطاعة المطلقة أوقف التنفيذ واستبدله جزاء لهما وإحسانا بأن الله فدا إسماعيل عليه السلام بكبش عظيم أنزله الله إليه من الجنة، نظير ما صنعاه، وجزاء لمن بلغ درجة الإحسان وهي أعلى درجات الإيمان، وهي شاهدة من الله عز وجل لعبده، فأي شهادة أعظم وأجزل.

ولذلك جاء هذا العيد ليمتثل المسلمون أوامر الله وينقادوا له في يوم فرحهم، فالهدي أو الأضحية هو قربان من المسلم لربه وخالقه، وهذا القربان لن يأخذ الله منه اللحم أو الدماء، ولكن يكون منه تقوى العبد لخالقه وانقياده لأمره وامتثالا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلـم، فقال الله تعالى في سورة الحج: "لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ كَذَٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ" فتقوى الله والامتثال لأمره يرفع صاحبه إلى درجة المحسنين، ونلاحظ أن في قصة إبراهيم مع ابنه إسماعيل اختتمها الله بوصفهم بالمحسنين، وكذلك في هذه الآية اختتمها الله بتبشيره للمحسنين.

وكذلك هنالك صفات وشروط يجب أن تتوفر في الهدي الذي يُضحّى به في هذا العيد ومنه أن تكون الأضحية غير معيبة، فلا تكون ذات قرن واحد أو أذن واحدة، كما أن هنالك اشتراطات في عمرها على حسب نوع الأضحية هل هي من الغنم أو البقر أو الإبل، فتخير الأضحية وانتقاؤها يصب في خانة التقوى، وكرم من الله وفضل أراد من المسلمين أن يأكلوا من هذه الأضحية ويتصدقوا منها ويدخروا، وفي ذلك يتجلى مظهر من مظاهر الرحمة والألفة والمودة بين أبناء المجتمع، وذلك بتكافله وعطف غنيه على فقيره، ومشاركته في المأكل.

ولرفع الحرج عن الأمة فقد ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلـم بكبشين أملحين أقرنين، ذبَحهما بيده وسمى وكبَّر، وقال: "بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي" فقد ضحى الرسول عليه الصلاة والسلام بكبش عنه وعن أهل بيته، وأما الكبش الآخر فهو عمن لم يضح من أمته إلى يوم القيامة، فمن لم يجد أضحية له لفقره ومسكنته وضيق حاله فقد ضحّى عنه النبي صلى الله عليه وسلـم رحمة بالمسلمين.

وعلاوة على هذا الامتثال لأمر الله، جعله الله هذا اليوم هو يوم فرح وسرور، تعلوا فيه حناجر المسلمين بالتكبير، ويؤدون فيه صلاة العيد، ويجتمعون لاستماع الخطبة، ويزورون فيه أرحامهم، ويبذلون وجوه الخير والصدقة، وهو إيذان بقرب انتهاء عام هجري كان الفرح والسرور وختامه العتق من النار.