واشنطن وبكين..والتصرف المحسوب حول تايوان !!

08 أغسطس 2022
08 أغسطس 2022

لا شك أن الزيارة القصيرة التي قامت بها نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي، والتي استمرت عدة ساعات - من مساء الثلاثاء حتى صباح الأربعاء الماضيين - ضمن جولتها الآسيوية، لم تكن زيارة مثيرة للجدل فقط، ولكن الأخطر من ذلك أنها دفعت بالعلاقات الأمريكية الصينية إلى درجة أعلى من التوتر لن تنتهي سريعا، وإلى حد أن البيت الأبيض الأمريكي أكد على أهمية الحفاظ على درجة من الاتصالات بين واشنطن وبكين وحذر في الوقت ذاته من خطأ الحساب وما يمكن أن يترتب عليه من إضرار بالسلام والاستقرار في جنوب شرق آسيا وحول تايون بوجه خاص.

وفي ظل المناورات العسكرية الضخمة وغير المسبوقة من جانب الصين التي طوقت تايوان من ست جهات واستمرت من الرابع حتى السابع من أغسطس الجاري وأثارت مخاوف تايوان ودول رابطة جنوب شرق آسيا - الأسيان - حول ما يمكن أن تتطور إليه الأحداث، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا: إن زيارة بيلوسي إلى تايوان، والتي غطت على جولتها الآسيوية التي شملت سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية واليابان، قد غلب عليها الطابع الرمزي على الجانبين الأمريكي والصيني، فبيلوسي كرئيسة لمجلس النواب الأمريكي هي ثالث أرفع شخصية في الترتيب على الصعيد الأمريكي بعد الرئيس ونائبته، وهي تمثل الهيئة الأكثر فاعلية في الكونجرس الأمريكي، ومن ثم فأنها في تحركها ومواقفها لا تعبر فقط عن موقفها الشخصي، ومن هنا فإن إعلانها عن زيارة تايوان ضمن جولتها الآسيوية قد أوجد مأزقا دبلوماسيا لواشنطن وبكين ووضعهما في مواجهة، كان يمكن تجنبها لو لم تصر بيلوسي على الزيارة، فإتمام الزيارة يثير حفيظة الصين، والتخلي عن الزيارة يكسر هيبة واشنطن في آسيا والعالم على نحو لا يمكن ترميمه. يضاف إلى ذلك أن الزيارة وصفت بالرسمية وليست بالشخصية أو الخاصة، واستخدمت بيلوسي طائرة عسكرية أمريكية في وصولها ومغادرتها تايبيه عاصمة تايوان. كما أن الاتصال الهاتفي الذي تم بين الرئيس الأمريكي ونظيره الصيني قبل أيام قليلة من الزيارة لم يغير من موقف أي من الدولتين، برغم محاولة واشنطن تهدئة مخاوف بكين من أن الزيارة قد تكون مقدمة لتغيير موقف واشنطن من مبدأ " الصين الواحدة ". وذلك بالتأكيد على الالتزام بالسياسة الأمريكية المعروفة حيال الصين في هذا المجال، والزعم بأن الكونجرس الأمريكي كسلطة تشريعية لا يخضع للبيت الأبيض، على النحو المعروف في دول أخرى، ومن ثم فإن البيت الأبيض لا يمكنه الحيلولة دون إتمام الزيارة، ولكن من مسؤوليته في الوقت ذاته الحفاظ على أمن وسلامة بيلوسي كمسؤولة أمريكية رفيعة خلال تحركاتها، ومن ثم فإنه اتخذ الإجراءات الضرورية لضمان ذلك من جانب الجيش والأجهزة الأمريكية المعنية. وبالتالي بدا الأمر وكأن البيت الأبيض الأمريكي لا يمانع في إتمام الزيارة ولكنه يحاول الحد من أية خسائر أو سلبيات قد تترتب عليها وهو يدرك جيدا ما تسببه الزيارة من إحراج للصين دولة وقيادة، وهذا لا يمكن أن ينفصل عن التوتر في العلاقات بين الجانبين على مدى الأشهر الأخيرة،

وعلى الجانب الصيني، فإن بكين شعرت أن الزيارة مفروضة عليها، فهي لم تتم برضاها، وأن البيت الأبيض الأمريكي يناور في محاولة لامتصاص غضبها أو الحد منه على الأقل. كما أنها تدرك أن زيارة بيلوسي لتايوان لا تمس فقط بهيبة الصين ومكانتها الإقليمية والدولية وتمسكها بسياساتها المعلنة منذ سنوات طويلة، بل أنها قد تفتح المجال أمام محاولة أطراف إقليمية أو دولية أخرى لتقليد هذه الزيارة أو المخاطرة بمحاولة ذلك بشكل أو بآخر. ومن أجل الحفاظ على مكانة الصين الإقليمية والدولية، فإن بكين عمدت إلى مهاجمة وانتقاد زيارة بيلوسي منذ الإعلان عنها، بل واستخدمت عبارات وأوصافا تبعث برسائل تحذير واضحة للولايات المتحدة، بما في ذلك التلويح بإمكانية إسقاط طائرة بيلوسي وبقدرة الجيش الصيني على حماية وحدة أراضي الصين، وذلك حتى قبيل وصول بيلوسي إلى تايبيه، وقد صاحب ذلك بالفعل تحركات عسكرية صينية في محيط تايوان من ناحية، وإجراءات عسكرية أمريكية بتحريك حاملة طائرات ووحدة حماية بحرية و13 طائرة مقاتلة وعدد من طائرات التزود بالوقود في الجو ودفعها للاقتراب من حدود تايوان تحسبا لأية احتمالات قد تحدث من جانب بكين، خاصة أن الخارجية الصينية وصفت الزيارة بأنها " استفزازية وتصرف غير مسؤول " كما حذرت من أنها ستتخذ " جميع التدابير لحماية سيادتها وسلامة أراضيها وأن كل العواقب " يجب أن " تتحملها واشنطن والانفصاليون في تايوان " من ناحية ثانية. ولذا فإنه لم يكن غريبا ولا مفاجئا أن تتخذ واشنطن مختلف الإجراءات لضمان هبوط طائرة بيلوسي بسلام في تايبييه مساء الثلاثاء الماضي، بما في ذلك إظلام المطار حتى تهبط الطائرة بسلام. وذلك بعد محاولات تعتيم بشأن خط سير الطائرة وموعد دخولها أجواء تايوان.

ثانيا: بغض النظر عن تصريحات بيلوسي عقب وصولها ولدى مغادرتها تايبيه صباح الأربعاء الماضي، وبغض النظر أيضا عن الموقف التقليدي لبيلوسي تجاه الصين وانتقادها لأوضاع حقوق الإنسان بها، وذلك منذ أحداث ميدان تيانانمين عام 1989 ورفعها لافتة عام 1991 خلال زيارتها للميدان " تحيي فيها الذين ماتوا في سبيل الديمقراطية " وهو ما طوقته السلطات الصينية بسرعة ووصفت سلوك بيلوسي في ذلك الوقت "بالمهزلة"، فإن زيارة بيلوسي لتايوان وتصريحاتها أكدت وقوف أمريكا إلى جانب تايوان ودعمها لها مع التأكيد في الوقت ذاته على أن ذلك لا يتعارض مع الالتزام الأمريكي بسياسة " الصين الواحدة "، وقد أكد وزير الخارجية الأمريكية بلينكن أكثر من مرة بعد الزيارة على أن واشنطن " لا تعترف باستقلال تايوان وأن سياستها حيال الصين لم تتغير "، ومن ثم انطلق بلينكن من هذا التأكيد إلى استنكار رد فعل الصين حيال الزيارة متهما إياها "بالمبالغة" في رد الفعل وأنها - أي بكين - تحاول استغلال الزيارة لإحداث تغييرات في الأوضاع على الأرض وزيادة التوتر بشأن تايوان.

وبالنسبة للصين، التي شعرت بأن أمريكا عمدت إلى الإساءة العلنية لها من خلال إتمام الزيارة، فإنها واجهت موقفا حرجا ودقيقا، فإما أنها تواصل إجراءاتها لمنع الزيارة، بما في ذلك احتمال التعرض بشكل ما لطائرة بيلوسي، وهو ما يعني الدخول في مواجهة عسكرية مع واشنطن، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج، وهي مواجهة لا تريدها الصين ولا الولايات المتحدة بالطبع خاصة الآن. وإما أن تفوت الفرصة على واشنطن وتحول الحدث إلى ما يمكن أن يدعم سياسة بكين حيال تايوان و يعزز مبدأ "الصين الواحدة " ويقطع الطريق أمام إمكانية حدوث هذه الاحتكاكات الاستفزازية من جانب أي طرف آخر في المستقبل.

وبالنظر إلى أن الصين دولة كبيرة تضع عينها على المستقبل تماما وتثق في قدراتها واستراتيجيتها في الحفاظ على أمنها ووحدة أراضيها، فإن القيادة الصينية الواعية آثرت إفراغ زيارة بيلوسي من مضمونها والتقليل من أهميتها الإعلامية والرمزية وذلك بتمسكها باستراتيجية النفس الطويل وتجنب الدخول في حرب مفروضة عليها. ومن هنا فإن بكين واصلت الانتقاد اللاذع للزيارة وللسياسة الأمريكية واتخذت إجراءات عقابية ضد بيلوسي وأوقفت برامج تعاون مع واشنطن، إلى جانب فرض عقوبات على تايوان. وفي الوقت الذي أكدت فيه بوضوح أن الزيارة " تدخل سافر ومرفوض " في الشؤون الداخلية للصين فإنها قامت بمناورات عسكرية هي الأضخم على الإطلاق في محيط تايوان، تم خلالها الكشف عن قدرات عسكرية صينية كبيرة ومتقدمة، كما تم خلالها محاكاة السيطرة على تايوان - حسبما أعلنت تايبييه نفسها، فضلا عن اختراق عشرات الطائرات الحربية الصينية وعدد من القطع البحرية لخط الحدود في مضيق تايوان أكثر من مرة. وقد أثار ذلك قلق تايبيه وواشنطن أيضا، خاصة أن خط الحدود في مضيق تايوان يعد خطا داخليا لتقسيم الحدود بين تايوان وبكين في إطار الصين الواحدة وليس خطا دوليا للحدود بين دولتين. وبذلك أكدت الصين أنها مستعدة للدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها وأن تايوان جزء لا يتجزأ منها في إطار الصين الواحدة. وإذا كانت واشنطن قد كسبت ما يمكن وصفه بأنه "فرقعة إعلامية" للمساس بهيبة الصين، فإن بكين كسبت ما هو أكثر أهمية من ذلك وهو تأكيد سياستها في إطار مبدأ "الصين الواحدة" ومصداقيتها في الالتزام بذلك والدفاع عنه، وفي الوقت ذاته قدرتها كدولة كبيرة على ضبط ردود فعلها وتفويت الفرصة على من يريدون استفزازها أو استدراجها إلى حيث لا تريد وفي وقت ليس من اختيارها، وهي مقدرة طالما تمتعت بها الصين على امتداد العقود الماضية وبذلك لم تتمخض زيارة بيلوسي سوى عن تسميم العلاقات الأمريكية الصينية أكثر من ذي قبل، ولعل السؤال الذي يقفز إلى الذهن هو لماذا أصرت بيلوسي على القيام بالزيارة التي لم تضف شيئا للموقف الأمريكي المعروف حيال تايوان وزيادة التوتر مع الصين؟، وإذا كان الرئيس الأمريكي السابق ترامب قد انتقد بيلوسي وزيارتها بشدة، فهل تريد بيلوسي الترشح للرئاسة الأمريكية القادمة، أم أنها تريد مجرد إنعاش حزبها الديمقراطي داخليا ؟