هل يعيد تويتر المكتبة الزرقاء؟
لقد أصبح من المعارف العامة التطور الذي شهدته وسائل التواصل والإعلام عبر التاريخ؛ فبين الرسومات على جدران الكهوف واكتشاف النار واختراع اللغات وتطورها ثم اختراع الكتابة وما تلاها مما أسست له من تطورات متسارعة مثل اختراع الطباعة وتأثيرات الثورات الصناعية المتتالية بدءا من اختراع المحرك البخاري الذي أثرى ممارسات التواصل في جانبي الطباعة الآلية وسرعة نقل المعلومات - عبر سكك الحديد - بين مختلف المواقع، وما أتى بعد ذلك من وسائل سمعية كالمذياع والهاتف، وبصرية كآلات تصوير الفوتوغرافيا والفيديو والتلفاز، والبرمجية كالحاسب الآلي والأجهزة الذكية ومنصات التواصل الاجتماعي وتطبيقات الثورة الصناعية الرابعة.
ولعل من أبرز الخلاصات التي لا ينفك المختصون يستحضرونها في نقاشات سياق تطور وسائل التواصل والإعلام أنه وبالرغم من ذلك التطور فإنه لم يحدث تاريخيا أن قامت وسيلة لاحقة بطمس وسيلة سابقة؛ فظهور الكتابة لم يطمس التواصل الشفهي، وظهور الطباعة لم يطمس الكتابة، وظهور المذياع لم يطمس الطباعة، وظهور التلفاز لم يطمس المذياع، وظهور الكمبيوتر والإنترنت لم يطمس التلفاز، وهكذا. ويسير بعض المختصين إلى أبعد من ذلك بالقول بأن كل وسيلة تتكامل مع الوسائل الأخرى لتكون جزءا من منظومة تواصلية ومعلوماتية متكاملة؛ بحيث تؤدي كل وسيلة دورا بناء على طبيعة عملها وخصائصها من حيث الجانب التقني وعامل الوقت وطبيعة المحتوى وطريقة الوصول للجمهور.
لقد كان اختراع الألماني يوهان جوتنبرج الطباعة مفصليا في مسيرة تطور وسائل التواصل والإعلام، وقد يكون من أبرز الشواهد على ذلك العنوان الذي اختاره كل من آسا بريجز - مؤرخ بريطاني وعميد سابق بجامعة أكسفورد - وبيتر بورك - أستاذ التاريخ الاجتماعي بجامعة كامبريدج - لكتابهما الشهير «تاريخ اجتماعي لوسائل التواصل والإعلام» A Social History of the Media الذي أسمياه: من جوتنبرج إلى الإنترنت؛ حيث كان من أبرز تجليات اختراع الطباعة بدء مرحلة من توثيق المعلومات القابلة للتداول بعيدا عن عدم دقة النقل الشفهي أو محدودية النسخ اليدوي.
ونتيجة للكلفة المالية - المتمثلة في مدى القدرة على شراء الكتب المطبوعة آنذاك - والكلفة الثقافية - نظرا لانتشار الأمية في الطبقات الدنيا في المجتمع الأوروبي - فقد كان مما أفرزته حركة انتشار الطباعة في القرن السابع عشر ظهور مطبوعات صغيرة ذات أسعار متدنية نظرا لأن طباعتها تتم على ورق أزرق خشن كان يستعمل آنذاك لتغليف السكر، ومنه استمدت تلك المطبوعات اسم «المكتبة الزرقاء» Bibliothèque Bleue. وكانت قراءة تلك الكتيبات تتم شفهيا بصوت مسموع من قبل أحد أفراد العائلة أو أحد سكان الحي على بقية العائلة أو الجيران، كما وجدت تلك الكتيبات طريقها أيضا إلى بيوت عائلات طبقة النبلاء لأنها تقدم محتوى ترفيهيا لا يجدونه في الكتب المنتشرة آنذاك. وبالرغم من أن تلك المطبوعات أتاحت لشرائح أوسع من المجتمع إمكانية الوصول لمنتج ثقافي في المتناول، إلا أن بعض المؤرخين الأوروبيين خلصوا إلى أن ذلك المنتج الثقافي كان «انهزاميا ومهدئا» نظرا لأن أبرز مكوناته تحمل موضوعات متنوعة من إرشادات حياتية ووصفات طبخ وقصص شعبية ودينية وملامح من حياة القديسين وقصصا متنوعة حول الفروسية والغرام.
وإذا كانت مدينة «تروا» الفرنسية تعتبر مركزا رئيسيا لتوزيع كتيبات المكتبة الزرقاء عبر شبكة من الباعة المتجولين، فقد يكون ممكنا النظر من ذات الزاوية إلى مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية كمركز للمكتبة الزرقاء الجديدة في عصرنا الحالي. ففي مقال نشرته صحيفة الجارديان البريطانية بداية هذا الأسبوع بعنوان «تويتر للطيور فقط» Twitter is Strictly for the Birds تقول كاتبته بأنه عوضا عن أن يكون تويتر مصهرا تلتقي فيه الأفكار ليخرج لنا أفضلها، فإن الواضح أنه أضحى مساحة للأشخاص الصِّدَاميين ليصرخوا في وجوه بعضهم البعض. وتسترسل الكاتبة في وصفها قائلة بأن تويتر يعتبر بيئة مثالية «لتكليس» الاستقطاب وعزل مستخدميه في مجموعات داخل غرف صدى تصور لهم دائما أن ما يعتقدونه هو الصواب، وأنهم دائما ما يكونون في وضع التوثب تجاه أي حدث لا يرغبون فيه، وأنه حتى الآراء المختلفة غالبا لا يتم طرحها بلباقة.
ولكن هل يمكن الأخذ بخلاصة ذلك الطرح الذي قد لا يعدو كونه وجهة نظر قائمة على تجارب شخصية؟ لقد أظهرت بعض الأبحاث العلمية أنه إذا تم تعريض مجموعة من الأشخاص تتبنى وجهة نظر محددة تجاه قضية ما عبر وسائل التواصل الاجتماعي لوجهة نظر مختلفة تتبناها مجموعة أخرى من الأشخاص، فإن ما ينتج عن ذلك ليس تقبل وجهة النظر المختلفة بل التمسك بشكل أكبر بوجهة النظر الأصلية لدى المجموعة وزيادة مستوى الاستقطاب. وقد أكدت ذلك تجربة ميدانية أجريت أثناء الانتخابات الأمريكية عام 2018 على ناخبين ديمقراطيين وجمهوريين تم تعريض مجموعة من كل حزب لرسائل سياسية من الحزب الآخر نتج عنها استقطاب أكثر بين المجموعتين.
يميل بعض المختصين دوليا وحتى محليا إلى إلقاء جزء من اللوم في إذكاء الاستقطاب والآراء المتطرفة على خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي - وفي سياقنا تويتر - ذلك أن تلك المنصات تقوم بتصنيف المحتوى الجدلي أو المتطرف على أنه محتوى رائج نتيجة إقبال الكثير من المستخدمين على التعليق عليه أو مشاركته حتى ولو كانوا من غير مؤيديه ما يتسبب برفع احتمالية ظهوره لغير المتابعين وبالتالي ينتج عن ذلك كله تعزيز للتطرف والاستقطاب. ويلقى الطرح المتعلق بآلية عمل خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي رواجا في الوقت الحالي، حيث نُظِّمَ الأسبوع الماضي مؤتمر في السعودية حول الاتزان الرقمي Digital Wellbeing يجيب على تساؤلات حول ما إذا كنا نأخذ أقصى استفادة من تقنيات التواصل، أو أن تقنيات التواصل هي التي تأخذ أقصى استفادة منا، وكيف تتحكم المنصات بما نشاهده أو نقرأه عبر المنشورات والمقاطع المقترحة التي تنتجها خوازمياتها.
ختاما فإن ما قد يزيد من تعقيد النقاشات حول دور تويتر في تشكيل الوعي الجمعي عالميا استحواذ إيلون ماسك قبل أسبوعين على أكبر حصة في تويتر (أكثر من 9%) وطرحه تساؤلات حول مدى التزام تويتر بمبادئ حرية التعبير، واصفا تويتر في تغريدة له بأنه ساحة عامة غير رسمية للتعبير عن الرأي. ولم يتوان حتى بعض موظفي تويتر في التعبير عن قلقهم من تأثير استحواذ إيلون ماسك على أكبر حصة، واصفين إياه بأنه شخص غير مستقر ذهنيا، وداعين إلى التظاهر داخليا احتجاجا على عملية الاستحواذ تلك.
بدر الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
