هل رفُضت الفلسفة كرؤية للتفكر والتدبر والنظر؟

24 نوفمبر 2021
24 نوفمبر 2021

لا شك أن الفلسفة عندما ظهرت بحسب الكثير من المؤرخين كانت في اليونان، وظهرت كرؤية للنظر في الوجود، والطبيعة، والغيبيات، والحياة، وطرح الاستدلالات العقلية والمنطقية، بهدف المعرفة، لكنها تظل هذه الاستدلالات تنطلق من ثقافات هذه الشعوب أو تلك، وعندما انتشر الإسلام وتوسع في بلدان عديدة، وتم التعّرف على التفلسف كأسس للتفكير والنظر وتحليل الألفاظ من خلال البيان والتوضيح وفق العقل المجرد، ومن خلال طريقة المحاورة والمناظرة، وظهرت الفلسفة أيضاً عند ديانات شعوب أخرى، في آسيا، لا سيما في الهند والصين واليابان، لكنها كانت في الجانب الروحاني فقط، وبعد بروز الإسلام وانتشاره، بقيت بعض الشعوب التي دخلها الإسلام، على ديانتها كثقافة، فحاولت مواجهة الفكرة الإسلامية، من خلال الجدل والنقد ومحاولة هدم منطلقات الدين من خلال فعل السؤال والحوار بين أصحاب الفكر من الجانبين، وكان للمعتزلة في البداية الدور الرائد في الرد على الزنادقة والمخالفين من خلال الردود الكلامية وفق المنطق العقلي والمنطق الفلسفي ومن خلال علم الكلام.

كما أن بعضاً من العلماء المسلمين، الذين تعرفوا على الفلسفة اليونانية، انبهروا بها وبطريقتها في النظر والتفكر وفق طريقة الذين ساروا عليها من اليونانيين ومن غيرهم، ومن هؤلاء كما تذكر المؤلفات التاريخية، ابن سينا، والفارابي، والكندي، وأخوان الصفاء وبقى العلامة ابن رشد الشارح الشهير لفلسفة أرسطو أخذ جانباً وسطاً في هذه الفلسفة، صحيح أنه تأثر بها في بعض مضامينها، لكن ابتعد عن مقارباتها للدين والوحي، وفق النظرة الإسلامية، وهو ما جاء في كتابه: (فصل المقال بين الشريعة والحكمة من اتصال)، ويقصد بالحكمة الفلسفة كما عُرف عنها، وحاول تقريب هذه الفلسفة من الرؤية الإسلامية، مع التمييز والإدراك فيما بينهما من اختلاف في مضامين الدين وقطعياته، ومع ذلك فإن ابن رشد لم يكن شارحاً فقط لفلسفة أرسطو، بل كان فليسوفا مجددا ومضيفاً لهذه الفلسفة التي شرحها، وهو ما أكد عليه المفكر الغربي المعروف د/ محمد عابد الجابري.

والإشكال الذي وقع فيه بعض هؤلاء الفلاسفة المسلمون أنهم قلدوا الفلسفة اليونانية التي صيغت وفق النظر الفكري المتمايز عنهم، بطريقة تقترب من الفكرة الفلسفية للثقافة اليونانية الخاصة، وهو ما جعل البعض من الباحثين من المفكرين العرب والأجانب، من اعتبر أن هؤلاء، مجرد مقلدين للفلسفة وليسوا من المبدعين فيها في الكثير من مضامينها الفكرية، وظلوا في مربعها من المعجبين، في الكثير من قضايا الفلسفية، فظهر في ذلك الوقت أحد العلماء البارزين في القرن الحادي عشر الميلادي، أبو حامد محمد الغزالي، العالم الموسوعي بإنتاجه الفكري والفلسفي، إلى جانب العلوم الدينية، في المنطق وعلم الكلام، والأصول والفقه وزادت مؤلفاته على أكثر من (200) كتاب في شتى المعارف، فرأى الغزالي أن علماء كبار في عصره، انغمسوا في الفلسفة اليونانية دون التمييز أو الفرز بين مضامينها، والرؤية الإسلامية، كما أشرنا آنفاً لبعضهم. ففكر الغزالي أن الأمر يستدعي الرد والمحاورة لهذه الفلسفة ونقدها، التي لا شك أنها قد تتأثر بها أجيال من المسلمين بسبب قلة العلم والمعرفة الكافية من البحث والدرس في النظر الفكري. فعكف في قراءة الفلسفة وأقوال الفلاسفة الكبار في الفلسفة اليونانية، ومن تأثر بها، واستطاع في عامين أن يلم بالفلسفة ونظرياتها، وأن يوازن فيما قالوه وما برز فيها من تناقضات، ومنها رؤيتهم في مسائل الإلهيات، والتناقض مع بعضهم البعض، فصدر كتابه الأول (مقاصد الفلاسفة)، الذي طرح فيه رؤيتهم الفكرية في هذا الكتاب، وبسط نظرياتهم الفلسفية ومصطلحاتهم، حتى يكشف ماذا تعني هذه الفلسفة؟ وما يريد أصحابها منها؟ وما نظرتها تجاه الوجود والحياة والغيب.. الخ؟ ومن هؤلاء الذين خصهم بالنقد أيضاً، الفارابي وابن سينا، الذين قلدوا الفلاسفة في العديد من الأفكار والرؤى واعتقدوا بصحتها، ومنها بعض الآراء التي تصطدم مع بعض القيم الدينية، وكان الغرض الذي قصده أبو حامد الغزالي من نقد الفلسفة، هو نزع الثقة من أفكار الفلاسفة، والتنبه للأخطاء التي وقعوا فيها، ومنها تناقضاتهم مع بعضهم البعض في هذه النظريات، أو مخالفاتهم الأخرى للمنطق العقلي بحسب رأي الغزالي، هو الرد القوي على هذه الفلسفة في بعض ما طرحوه من أفكار ونظريات فلسفية.

ثم أصدر أبو حامد الغزالي كتابه الشهير الثاني (تهافت الفلاسفة)، وهو الكتاب الذي نقد أراء الفلاسفة القدماء بنقد لاذع، وكشف الكثير من ارتباك أفكارهم في قضايا عديدة، وخاصة في الإلهيات، حيث طرح بعض ما قاله بعض هؤلاء الفلاسفة اليونانيين، خاصة قولهم: إن الله يعلم بالكليات، ولا يعلم بالجزئيات، وقدم العالم، وغيرها من الآراء التي يراها مخالفة لمضامين الدين والعقل، ومن حيث المنطق استدلالا، لكونها قضايا غيبية، وهو ما يراها مجرد أراء وأوهام لا تتفق مع اليقين العقلي، فكان نقده منصباً على النظريات اليونانية التقليدية، ومن وافقها من المتأثرين بالفلسفة في عصر الغزالي، لكنه اتفق معهم في بعض الآراء المنطقية، التي قالها هؤلاء الفلاسفة، التي يراها لم تكن مجانبة للحقائق الكونية في ظاهرها، خاصة في مجال العلوم الرياضية، وعلم المنطق الذي يراه إيجابياً في بعض منطقاته لكونه محايداً تجاه الوصول إلى اليقين العقلي. ويرى الباحث الفرنسي في مجال الفلسفة «رأى شمولدير» في تقييم نقد أبي حامد الغزالي للفلاسفة اليونانيين: «إن غرض الغزالي من كتابه هو بيان تهافت الفلاسفة وتناقضهم بعضهم مع بعض، وأن المذهب الفلسفي للواحد منهم يُضادُّ فلسفة الآخر، ومعنى هذا أن الغزالي لم يكن له في عمله مجهود إيجابي يُدلل به على تهافت الفلاسفة وتداعي مذاهبهم، بل كل ما كان له هو بيان تناقض هذه المذاهب فيما بينها».

ولذلك ـ كما يقول د/ محمد يوسف موسى في كتابه «بين الدين والفلسفة»: «لم يرضّ الفيلسوف البريطاني «راي مونك» هذا الرأي ـ الذي قاله شمولديرـ بل إن غرضه [الغزالي]، هدم تلك المذاهب الفلسفية بنقد عنيف». ونحن ـ كما يضيف د.محمد يوسف موسى ـ «مع موافقتنا المستشرق «راى مونك» على أن ما ذكره كان غرضاً للغزالي من تهافته، نرى أنه لم يكن الغرض الوحيد من كتابته، إن الغرض أو الأغراض التي أرادها حجة الإسلام من حربه الفلاسفة بهذا الكتاب، تبين له من كلامه نفسه، وبخاصة من افتتاحه لهذا الكتاب». والإمام الغزالي عندما يشدد النقد على أراء الفلاسفة، في القضايا التي حددها في كتاب (تهافت)، لا يناقشها بصورة تعميمية، كما يرى د. موسى: «بل يعرض الرأي الذي لا يرضاه مع الأدلة التي ساقها الفلاسفة لتأييده، ومع ما يراه هو من أدلة أخرى فاتت الفلاسفة، وبعد هذه المرحلة يأخذ في الرد والاعتراض على هذه الأدلة ويتصور لهم إجابات على اعتراضاته، ويأخذ في الرد عليها من جديد. وبهذا نرى الغزالي لا يسير في المعركة على طريقة المحامي الذي لا يعنيه أن يظهر أدلة خصمه، بل إنه يسير سير من يريد الوصول إلى الحقيقة، مع إنصاف خصمه وتقدير أدلته وبراهينه ثم نقدها، وهذه طريقة نجدها ماثلة في كثير من المؤلفات التي تدرس حتى اليوم بالأزهر، وهي طريقة فيها إنصاف للخصم إلى حدٍ كبير».

ومن الحق والإنصاف أن الغزالي، كان نقده منصبا على نقد الأفكار بصورة منهجية اتبعها في نقده للكثير من الظواهر الفكرية والفلسفية، ولذلك كما يقول د. محمد السيد الجليند، في كتابه عن الإمام الغزالي: إنه: «أول من أشهر قلمه بشكل عقلاني ومنهج فلسفي في الرد على الفلاسفة، وهذا لا يمنع أن يكون قد سبقه إلى ذلك آخرون. لكنه يختلف عنهم في المنهج، وفي طبيعة تناول المسائل الخلافية، وألف في ذلك أهم كتابين اشتهر بهما في مجال الدراسات الفلسفية هما: «مقاصد الفلاسفة»، «تهافت الفلاسفة»، فأوضح في الأول مقاصد الفلاسفة من مصطلحاتهم وشرحها ووضح غامضها كما لو كان واحداً منهم، ثم أفرد الكتاب الثاني لبيان تهافت الفلاسفة في مقاصدهم وأغراضهم من مصطلحاتهم».

والعديد ممن انتقدوا أبو حامد الغزالي بأنه هاجم بعنف الفلاسفة، لكن د. محمد الجليند، رأى أنه ركز في نقده في: «المرحلة الأولى من حياته الفكرية على النهج العقلي المؤسس على المشاهدة الحسية والأوليات الضرورية كأساس لبناء اليقين الذي يطلبه، وكان ذلك سلاحه، في بيانه الرائع لمقاصد الفلاسفة، وفي بيانه لتهافتهم، وأغلب الظن عندي أنه في هذه المرحلة حاور الفلاسفة وقرأ الفلسفة كما لو كان فيلسوفاً معتنقاً لمنهجها مأخوذاً بمسائلها، شغوفاً بقضاياها». ومن هذه المطلقات فإن الغزالي استطاع أن يوجه ضربة قوية لمنهج الفلسفي وليس للفلسفة نفسها، ومن هنا كثرت الاتهامات بأنه كان السبب في تهاوي الفلسفة وسقوطها منذ ذلك القرن الذي صدر فيه كتابه (تهافت الفلاسفة).