نكبت المشاعر أم نظهرها؟

28 نوفمبر 2022
28 نوفمبر 2022

أُسأل في العيادة أحيانا ما إن كان ينبغي أن نظهر المشاعر أو نخفيها؟ وطبعًا كأي معالج حصيف يجب ألا أبدي رأيي بسرعة ولا أن أقفز إلى النتيجة، التي ستكون حينها حتمًا تمثلني وتعنيني أكثر مما تمثل السائل وتعنيه، بل أبدأ باستكشاف ما يظهره السؤال وما يخفيه؛ أي أبحث في التفاصيل وفيما بين السطور؛ فالشيطان في نهاية المطاف، وكما يدَّعون، يكمن في التفاصيل. وهناك دائما مبرر لمثل هذا السؤال في مجتمعنا؛ فالمجتمع كما يبدو لي متحفظ بعض الشيء، وربما كله. فلو أننا تخيلنا مسطرة مدرَّجة ووضعنا على حدها الأيمن كلمة «متحفظ» وعلى حدها الأيسر «منفتح»، فلن يحدوني شك في أنني سأضع نقطة مجتمعنا في خانة أقرب إلى أن يكون متحفظا؛ ثمة خوف في الأجواء وقلق عام، وعدم رغبة في الإفصاح، وخوف من المشاعر، وخوف من الآخرين، وتصلب مبالغ فيه. إن الأمر قد يصل في بعض الأحايين المتطرفة إلى أنك لا تعرف ما إن كانت العزومة التي تحضرها عرسًا أم عزاء!

ولعل هذا، أي الامتناع عن التعبير عن المشاعر، مما يدفع إلى انتشار النفاق الاجتماعي. فالنفاق الاجتماعي، الذي ربما يكون منتشرًا في مجتمعنا، فيما أرى، ليس نتيجة سوء خلق بقدر ما هو نتيجة عدم قدرة على الإفصاح عن المشاعر: لا تستطيع أن تقول ما في جعبتك لمن أمامك فتجامل وتنافق. ولذا لا يمارِس النفاق الاجتماعي، أو التحفظ الشديد لو لطّفنا الكلمات، إلا من يكون طيبًا في الأصل. حسنًا، لعلي أنحو بالأمر ناحيته السلبية فحسب، فلا شك أن بعض التحفظ أمر مرغوب به ومما يلزم للعيش ضمن مجموعة: لا يمكنك أن تظهر كل ما يضمه دماغك من أفكار ورؤى وهواجس وإلا لانتفت صفة العقل عن دماغك هذا، ولا يمكنك إلا أن تعقِل أهواءك وتمسك مشاعرك وإلا جرّتك أقوالك وأفعالك إلى ما لا تحمد عقباه: ثمة مبررات لتغليب العقل على العاطفة ووضعه فوقها، وهذا التغليب يكمن في أسّ العلاج المعرفي السلوكي الحديث Q.

وإن كان تغليب العاطفة إلى منتهاها يؤدي إلى الهستَرة فإن تغليب العقل يؤدي في منتهاه إلى العقلنة. ومع أننا نميل إلى وضع الهسترة، سيئة السمعة، في خانة المذمة، ونميل كذلك إلى وضع العقلنة، حسنة المحتد، في خانة المدح، إلا إن كلا الحالتين تطرف مذموم. لا تبدو المشاعر في الكائن البشري أمرًا فائضًا عن الحاجة بل هي التي تعطي طعمًا ومعنى للحياة التي ستكون بدون المشاعر حياة رتيبة مملة رياضية أكثر مما ينبغي ومنطقية أكثر مما تحتمل وميتة أكثر مما ينفع الاستمرار فيها. العقلنة آلية دفاع نفسية مهمة لكنها كأغلب آليات الدفاع النفسية تنقلب عَرضًا نفسيًّا لو زاد استخدامها عن الحد. فهل يستخدمها مجتمعنا زيادة عن الحد المناسب؟ لعل إجابتي الخاصة على هذا السؤال ستكون: نعم. إن المجتمع ومن فيه يميلون فعلا إلى العمل بصمت ولا أملك نفسي من أن أعقِّب أن العمل بصمت هذا ليس خيارًا بل آلية دفاع نفسية متمكنة فينا، لكنها بالطبع ليست مما لا يمكن العمل عليها وحلها، هذا إن أخذناها أصلًا كمشكلة.

يمكن فهم العقلنة، كآلية دفاع، بأنها وضع العقل أو تحديدًا الأفكار حاجزًا أو سدًا أمام المشاعر، وعليه لا تتدفق المشاعر كما هي أو كما ينبغي، بل تلجَم لجمًا وتحبَس حبسًا. وها نحن نعود إلى فرويد في تصوّراته الميكانيكية للنفس: إن ما يُحبَس لا بد أن يمارِس قوة ضاغطة؛ فإما يتسرب بالتالي إلى الداخل ويبدأ في تشكيل أعراض نفسية أو جسمية، أو أن ينطلق في فورات إلى الخارج عبر العنف والسلوكات المدمرة للذات أو الآخر: لا بد من محاولة إعادة التوازن للضغط الزائد.

إن أخذ «كبت المشاعر» في الحسبان حين فهم بعض معادلات السلوكات الفردية أو المجتمعية، قد يؤدي إلى قلب مفاهيم كثيرة يعتبرها المخيال الجمعي مفاهيم حسنة ومفيدة، مثل الطيبة والخجل والتواضع والصمت والهيبة. فالطيبة، مثلا، التي سببها عدم القدرة على قول لا وعلى إبداء مشاعر الكره المتوجِّبة المبرَّرة في سياق ما، هي ليست طيبة حقًا، بل خنوعًا وقلقًا اجتماعيًّا وكبتًا. وليس الأمر مدعاة لإثارة المشاكل لو أن المجتمع برمته يتشكل بمصادر معرفة واحدة كما يمكن أن نصف الوضع في مراحل زمنية سابقة، ولكن، ويا للأسف والأسى، تتدفق مصادر المعرفة علينا وتجعل الجميع وخصوصًا الأجيال الجديدة عرضة للتشكلات المنمسخة والمنسلخة عن التشكيلات القارّة سابقًا. مثالٌ للإثارة الأخيرة: إن رؤية مُزارِع قبل ثمانين سنة يعمل في أرضه وهو يلبس دشداشة (مقصوصة من الأسفل وتبدو مثل قميص) ويضع مصرّا على رأسه (يغطيه عن الشمس) وقد وضعه على رأسه كيفما اتفق، أمرٌ يتوافق مع البيئة الاجتماعية والاقتصادية حينذاك، أما أن يقوم في زمننا هذا مجموعة من المسؤولين بافتتاح مشروع تحت شمس يونيو وهم يلبسون دشاديش بيض ناصعات البياض ويلفون حول رؤوسهم مصار ملفوفة بعناية، لهو مما يمكنني، وهذا رأيي الشخصي طبعًا، أن أعده نوعًا من كبت المشاعر، أو كبت الأجسام هنا، فما بالك لو أضفنا الخناجر إلى المشهد!

د. حسين العبري روائي وطبيب نفسي