نصر أكتوبر وخبرات لا غنى عنها !!
في الوقت الذي تعيش فيه المنطقة تحديات وتواجه مشكلات عديدة ومتنوعة وبالغة التأثير على حاضر ومستقبل دولها وشعوبها جميعها، حلت هذه الأيام الذكرى التاسعة والأربعون لحرب أكتوبر المجيدة عام 1973 والتي شكلت، ولا تزال تشكل، علامة فارقة وبالغة الدلالة، ليس فقط على صعيد التخطيط والأداء العسكري المصري والسوري، ولكن أيضا على صعيد المنطقة عربيا وإقليميا، وإرساء قواعد وخبرات لا غنى عنها، في الحاضر والمستقبل، خاصة فيما يتصل بسبل استعادة التضامن والتفاهم بين الدول العربية وتمتينه بشكل حقيقي للتصدي للتحديات التي تواجه دول المنطقة وشعوبها، وهو ما نحتاجه الآن وبشكل حقيقي أكثر من أي وقت مضى على امتداد العقود الخمسة الأخيرة.
وإذا كانت ذكرى انتصارات أكتوبر تستثير الكثير من المشاعر والأحاسيس والدروس والخبرات التي مهدت وصاحبت تلك الحرب المجيدة التي أعادت الثقة والاعتبار للعسكرية المصرية والعربية، والاعتزاز للمواطن العربي بوجه عام، خاصة لدى من شاركوا فيها ضباطا وجنودا وفي مختلف المواقع، فإن الاعتزاز بما تم من إنجاز والاحتفاء به يتجاوز الصيغ التقليدية في هذا المجال، بحكم أهمية وضرورة العمل للاستفادة بخبرة الأمس لمواجهة تحديات اليوم، وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى ما يلي: أولا: إنه مع الوضع في الاعتبار حجم وطبيعة المفاجأة التي أحدثها زلزال عبور القوات المصرية لقناة السويس ونجاحها في السيطرة على النقاط الحصينة في خط بارليف خلال بضع ساعات يوم السادس من أكتوبر 1973، والهلع الذي أصيبت به جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل من ناحية، وما سجله تقرير لجنة «اجرانات» الذي حقق فيما حدث على الجبهة المصرية والذي حمل عنوان «التقصير» من ناحية ثانية، فإن مزاعم «كوخائي» المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قبل أيام عن انتصار إسرائيلي في حرب أكتوبر هي مزاعم لا تستحق الرد عليها في الواقع، خاصة وأن دوافعها الدعائية الداخلية والخارجية معروفة، وأن ما أحدثته حرب أكتوبر من تغيير في المفاهيم العسكرية، ومن تحطيم للنظرية العسكرية الإسرائيلية لا يزال تأثيره باقيا حتى الآن، وبشهادة الخبراء العسكريين والمعاهد الاستراتيجية في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها.
ثانيا: إنه من المؤكد أن حرب أكتوبر المجيدة هي إنجاز عسكري وسياسي مصري بكل معايير الإرادة والتخطيط والتنفيذ والقدرة على الأداء في مواجهة إسرائيل، وهي في الوقت نفسه أيضا إنجاز عربي بالتضامن والدعم، وبالمشاركة في الاستفادة من النتائج التي تمخضت عنها الحرب في مختلف المجالات سياسيا وإعلاميا واقتصاديا ومعنويا كذلك، وذلك من زاوية ومنطلق محدد وهو أن الأشقاء العرب شكلوا في الواقع طوق مساندة ودعم وتآزر مع مصر وسوريا، قبيل وأثناء وبعد الحرب، وذلك بفضل قدرة القيادات العربية في ذلك الوقت على الالتقاء والوقوف معا، والتسامي على أية خلافات سابقة، والتساند من أجل استعادة المكانة والثقة والهيبة العربية التي تأثرت بشدة بسبب عدوان إسرائيل عام 1967.
ثالثا: إنه في ظل الخلافات والمشكلات التي عانت منها الدول العربية، خلال ستينيات القرن الماضي، قبل عدوان إسرائيل عام 1967 وبعد النكسة، فإنه لم يكن سهلا الانتقال من تلك الحالة من الخلافات والمواجهات بن الأشقاء التي وصلت إلى حرب أهلية وعربية في اليمن في النصف الأول من الستينيات إلى حالة من الالتقاء والتعاون واستعادة التضامن بين الدول العربية. وإذا كان عدوان إسرائيل عام 1967 قد أحدث هزة عنيفة على الصعيد العربي بكل مكوناته وأنساقه، فإن الخطوة الأولى تمثلت في تخلي القيادة المصرية عن شعار «وحدة الهدف» الذي تبنته في النصف الأول من الستينيات، الذي تسبب في خلافات عديدة، معلنة وغير معلنة، وتبنت شعار «وحدة الصف» بعد نكسة يونيو الذي فتح المجال أمام مزيد من التقارب والتوافق بين الأشقاء وكانت قمة الخرطوم بعد العدوان، وما تقرر فيها من دعم عربي لمصر وسوريا من ناحية، ومن التقاء مصري سعودي لتجاوز تبعات الحرب في اليمن من ناحية ثانية، ومن وقف للحملات الإعلامية المتبادلة والعمل معا لاستعادة الثقة بين الأشقاء من ناحية ثالثة، كان بمثابة أرضية قوية للعمل لتعزيز التقارب بين الأشقاء، ولم يقلل من أهمية وقيمة ذلك حدوث خلافات بين مصر وعدد من الدول الشقيقة «جبهة الصمود والتصدي» بسبب قبولها مبادرة روجرز عام 1969 لوقف حرب الاستنزاف التي عانت منها إسرائيل التي شنتها القوات المصرية، وكانت في جانب منها تدريبا عمليا على عمليات عبور القناة والحفاظ على زخم إعادة بناء القوات المسلحة المصرية على أسس جديدة.
رابعا: إن تبني القيادة المصرية لشعار «وحدة الصف» بين الدول العربية صاحبه رغبة عربية عامة في التخلي عن الخلافات الأيديولوجية وفي توجهات السياسات العربية حيال القوى الدولية في الشرق والغرب، أو على الأقل التقليل من أهميتها لصالح إعطاء المزيد من الاهتمام لتقريب المواقف بين الدول العربية ومحاولة ردم الفجوات التي تباعد بينها من أجل مزيد من الالتقاء العربي لمساندة جهود مصر وسوريا لمعركة التحرير التي سخرت لها مصر وسوريا كل إمكانياتهما، ويحسب للدول العربية مساندتها لهما كل حسب إمكانياته وظروفه وحساباته أيضا.
الخبرة الثانية التي نحتاجها الآن ولا غنى عنها، أيضا، هي تبني الدول العربية وبشكل حقيقي مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية الأخرى واحترام سيادتها والعمل معا من أجل المصالح العربية المشتركة، وعلى نحو يحقق المصالح المشتركة والمتبادلة بين الأشقاء. وعلى هذا الصعيد فإنه يحسب للرئيس المصري الأسبق أنور السادات، الذي تولى السلطة خلفا للرئيس عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 أنه عمل على إعطاء دفعة كبيرة لتبني هذا المبدأ المشار إليه على مستوى السياسة والعلاقات العربية ثنائيا وفي إطار جامعة الدول العربية أيضا وذلك كجزء أساسي في جهود السادات لحشد الطاقات العربية، وإتاحة المجال أمام أوسع مشاركة ممكنة للأشقاء لدعم جهود مصر وسوريا للإعداد للمعركة. ومن خلال مجموعة من الزيارات واللقاءات على مستوى القمة ثنائيا في المقام الأول تم استعادة جانب غير قليل من الثقة بين مصر والدول العربية الأخرى، وهو ما صب في الواقع لصالح دعم الاستعداد لحرب أكتوبر. وفي هذا المجال فإنه لم يكن مصادفة أبدا أن تكون هناك صفقة طائرات من الجزائر لمصر ودبابات لسوريا من العراق وقوات من السودان والكويت على الجبهة وبالطبع مشاركة أردنية مباشرة في الحرب، ثم تم تتويج ذلك بإعلان العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز حظر تزويد الولايات المتحدة وبريطانيا وهولندا وعدد من الدول الأوروبية الأخرى بالنفط خلال حرب أكتوبر عام 1973، وهو ما سبب صدمة كبيرة للغرب. وتصريحات هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية حول النفط العربي لا تنسى حتى الآن.
وإذا كانت وحدة الصف والالتقاء العربي العام على أولوية العمل من أجل هدف محدد ومتفق عليه بين الأشقاء، والالتزام الصادق بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الشقيقة وأخذ مصالح الدول الشقيقة في الاعتبار بشكل متوازن ومتبادل قد شكلت الأرضية الأرضية والسياج القوي لحرب أكتوبر المجيدة، فإن الأوضاع العربية الراهنة تتطلب ضرورة استعادة تلك الخبرات الطيبة والفعالة من أجل تجاوز الخلافات ومواجهة التحديات العربية الراهنة التي تتجاوز القدرات الفردية للدول الشقيقة، ومن حسن الحظ أن تلك الخبرات والمبادئ تتفق جميعها مع المواثيق العربية والدولية سواء في إطار مجلس التعاون الخليجي أو الجامعة العربية أو الأمم المتحدة أو القانون الدولي، فهل نتمكن من استعادتها والأخذ العملي بها من أجل مصالح الدول العربية الآن وفي المستقبل؟
