نزيف أوروبا المتفاقم.. ومأزق أوكرانيا !!
في الوقت الذي تدخل فيه الحرب الروسية ضد أوكرانيا شهرها العاشر خلال أقل من أسبوع من الآن، وبعد أن رفضت موسكو طلب أوكرانيا، عززه بابا الفاتيكان بصفة منفصلة وغير مباشرة، بأن تتوقف الحرب وتكون هناك هدنة إنسانية خلال فترة أعياد الميلاد، وبعد وضوح الاتجاه الروسي إلى التصعيد والتوسع في عمليات القصف الجوي والصاروخي في جبهات الشرق والجنوب الأوكراني الذي طال العاصمة كييف أيضا، وكذلك قيام الرئيس الروسي بزيارة ذات دلالة لمركز قيادة العمليات ضد أوكرانيا قبل أيام، فإنه بات من الواضح أن الحرب في أوكرانيا لن تتوقف قريبا كما كان يعتقد كثيرون، بل إن تقديرات عديدة تجعل من توقف الحرب خلال عام 2023 مجرد احتمال غير مؤكد، فقد أشارت المتحدثة باسم الخارجية الروسية مؤخرا إلى أن الولايات المتحدة والغرب يخططان لأن تستمر الحرب في أوكرانيا إلى عام 2024 أو أكثر خدمة لمصالحهما وللإضرار بروسيا وأن موسكو تعلم ذلك تماما وتتحسب له.
وبالرغم من ضخامة الإمكانيات الروسية، الاقتصادية والعسكرية، إلا أن حربا بهذا الحجم من الاتساع، ومن ثم استهلاك المعدات العسكرية والإمكانيات الاقتصادية والمالية على امتداد عشرة أشهر متصلة، لا بد وأن تطرح سلبيات ومشكلات على الصعيد الروسي، وهو ما اعترف به الرئيس الروسي بوتين ذاته قبل أسابيع عندما قال: إن «روسيا تواجه مشكلات في الحرب ولكنها تعمل على حلها ومواجهتها، وإن لديها قدرات لم تستخدمها بعد»، مشيرا إلى أن العقوبات الغربية تتسبب في زيادة المشكلات على نحو أو آخر.
ولعل من أهم مظاهر ذلك أن الجيش الروسي اضطر إلى استدعاء نحو 285 ألف جندي من الاحتياط في إطار تعبئة جزئية قبل أشهر، قد يضطر إلى استدعاء جزء آخر إذا تطلب سير العمليات ذلك، وهو ما أكدت موسكو أنه لم يحن وقته بعد، يضاف إلى ذلك أن روسيا شجعت الأجانب على التطوع للحرب في صفوف قواتها بالموافقة على تجنيس هؤلاء المتطوعين من ناحية، إلى جانب الاستعانة بالسجناء للقتال في جبهات القتال بعد تدريبهم من ناحية ثانية، وإظهار الرغبة في التفاوض بشروطها. من جانب آخر، فإن القوة الشرائية للعملة الروسية -الروبل- تحسنت، كما أن العائدات الروسية من النفط والغاز ازدادت مقارنة بما كانت عليه قبل بدء الحرب بسبب ارتفاع أسعارهما، غير أن العقوبات الاقتصادية والمالية وعزل روسيا عن نظام «سويفت» للتحويلات المالية بين البنوك المركزية، ووقف الواردات من روسيا والصادات إليها من جانب الدول الغربية في عدد من السلع يتزايد باستمرار يؤثر على الاقتصاد الروسي، خاصة أن العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا تجاوزت عشر جولات امتدت إلى مختلف قطاعات الاقتصاد الروسي، ومحاولة أوروبا وأمريكا حرمان روسيا من جزء من عائداتها النفطية من خلال فرض سقف لسعر النفط والغاز الروسيَين، والعمل على الاتفاق على ذلك بصفة كاملة ونهائية وتنفيذه ربما في مارس القادم. وإذا كانت آثار الحرب بدأت تظهر بصورة واضحة في الحياة اليومية للشعب الروسي، وهو ما يتحدث عنه كثيرون اضطروا إلى مغادرة روسيا، فإن الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي على الصعيد الغربي بصفة عامة والأوروبي بصفة خاصة لا يقل عن ذلك تأثرا، بل إنه أكثر تفاقما ووضوحا على مستويات عدة. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بصفة متزايدة هو، هل حقق الاتحاد الأوروبي أهدافه من الوقوف إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا؟ وهل يمكن أن يأتي الوقت الذي يجد فيه الاتحاد نفسه غير قادر على مواصلة الدعم الذي يقدمه إلى أوكرانيا؟ وماذا يمكن أن يترتب على مثل هذا الموقف، أو حتى الاقتراب منه؟ جدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي الذي حاول عبر مجلس أوروبا، ومن خلال مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي، وكذلك عبر تيسير سبل توسيع عضوية الاتحاد، وقبول عدد يتزايد من دول أوروبا الشرقية والدول التي ظهرت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام 1990، كان ولا يزال يحرص على دعم وتقوية ما يسمى «الرابطة الأوروبية» التي تشكل أساسا لعضويته وللعلاقات بين أعضائه، لتشمل كل المنطقة الممتدة من الأورال إلى الأطلنطي بما فيها روسيا، مع محاولة ربط المصالح في المجالات غير السياسية بصورة أوسع وأعمق بين روسيا والاتحاد الأوروبي، وهو ما قادته ألمانيا منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي في عهد المستشار الألماني الأسبق فيلي برانت، وازداد من خلال خطوط نورد ستريم 1 و2 لنقل النفط والغاز إلى ألمانيا وأوروبا، وكذلك خط السيل الشمالي بين روسيا وتركيا وحجم التجارة الضخم بين الجانبين، وذلك يقينا بأن زيادة المصالح سوف تحد من الخلافات، غير أن واشنطن كانت لها رؤية أخرى تقوم على عرقلة ذلك وتعويقه وهو ما عبّر عنه الرئيس الأمريكي السابق ترامب وينفذه الرئيس الحالي بايدن عمليا في الواقع، وإذا كان الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبالطبع بتأييد وحماس بولندا ودول أوروبا الشرقية الأعضاء فيه قد عارض وبشدة الاجتياح الروسي لأوكرانيا في فبراير الماضي، ليس فقط تأييدا للموقف الأمريكي، ولكن أيضا شعورا بمسؤولية سياسية وأخلاقية من جانب الاتحاد حيال أوكرانيا -التي لم تنضم لعضويته بعد- ورغبة في دعم «الرابطة الأوروبية» من ناحية، وتأكيدا على معارضة استخدام القوة في الفضاء الأوروبي، وخاصة من جانب روسيا ضد أي من جيرانها من ناحية ثانية، وخوفا بالطبع وتحسبا لاحتمالات المستقبل وتوجسا من دول أوروبا الشرقية والدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفييتي السابق حيال تطلعات روسيا من ناحية ثالثة، فإن ذلك دفع الاتحاد الأوروبي إلى الانخراط بجانب واشنطن في تقديم الدعم والمساعدات العسكرية والاقتصادية والمالية إلى أوكرانيا، والاستجابة لما تتخذه واشنطن من إجراءات ضد موسكو، مدفوعة بالصراع الاستراتيجي وسباق النفوذ بينهما، أكثر منه خوفا على أوكرانيا ومصيرها.
ولأنه من المؤكد أن أحدا لا في موسكو ولا في واشنطن ولا في بروكسل كان يتوقع أن تستمر الحرب الروسية ضد أوكرانيا حتى لبضعة أشهر، فإن الاتحاد الأوروبي فتح خزائنه ومخازن سلاحه لدعم أوكرانيا على مدى الأشهر الماضية. غير أن القدرة على الاستمرار في ذلك تختلف بين واشنطن وأوروبا، فإذا كانت واشنطن قادرة على مواصلة دعم أوكرانيا بحكم إمكانياتها ومصالحها الاستراتيجية، فإن الاتحاد الأوروبي بدأ يشعر ومنذ بضعة أشهر بوطأة استمرار الحرب في أوكرانيا وبدأت أصوات كثيرة حتى في المفوضية الأوروبية تحذر من انكشاف أوروبا عسكريا ومن نقص أسلحتها ومخزون ذخائرها، وحاجتها إلى رؤية جديدة لتسليح نفسها، وهو ما أشار إليه «بوريل» مفوض الاتحاد الأوروبي ذاته أكثر من مرة، كما أن أثر ذلك ظهر بوضوح في تضاؤل المساعدات الأوروبية لأوكرانيا بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وكذلك في تكرار الدعوة إلى وقف الحرب وإلى تفاوض أوكرانيا مع روسيا، ومع أن فرنسا أكدت على أنها لا تدفع أوكرانيا إلى التفاوض ولا إلى التنازل وأنها هي التي ستحدد ما هو في مصلحتها، إلا أن دعوة كييف إلى التفاوض مع موسكو ظهرت أيضا -وإن كان على استحياء- في بعض أوساط واشنطن، برغم اتجاه إدارة بايدن لدفع كييف إلى الاستمرار في الحرب من خلال خطط مدها بصواريخ باتريوت وأسلحة أخرى. ومع استمرار الحرب، ربما لبضعة أشهر أخرى فإن الاتحاد الأوروبي يجد نفسه في مأزق متزايد سياسيا مع روسيا، واجتماعيا واقتصاديا على المستوى الداخلي، وأخلاقيا وعسكريا مع أوكرانيا بسبب تضاؤل إمكانياته في دعمها على النحو الذي كان من قبل، وإذا كان الاتحاد الأوروبي لا يمكنه وقف مساعداته بصورة تامة إلا أنه سيعمل على تخفيف نزيف موارده الذي يؤثر على أمنه واستقراره، أما مصير أوكرانيا، فإن استمرار الحرب يجعله عرضة لكل الاحتمالات!!
