موسـمـيـة الإعـلان
قد يكون أحد مآخذ - أو محاسن - العولمة تعزيز ثقافة الاستهلاكية Consumerism، حيث أسهمت العولمة في الترويج لإنتاج واستهلاك منتجات العلامات التجارية العالمية إضافة إلى تسليع الأحداث والأفكار بما يسهم في ترويجها هي الأخرى. ولعله لا يتطلب الكثير من الجهد التفكير في المدى الذي وصلت إليه المجتمعات فيما يتعلق بإضفاء الصبغة التجارية على الأحداث والمناسبات والمواسم على الأصعدة العائلية والاجتماعية والسياسية والدينية بما يكفل المزيد من التكريس لثقافة الاستهلاكية ويضمن للشركات الكبرى استدامة نموها وربحيتها.
ولم يكن بعيدا عن ذلك التوجه قطاع الإعلان، بل إنه أساسا يعتبر أحد المتهمين الرئيسيين في ما قد يصفه البعض - كرأي متطرف - بعملية غسل الأدمغة الممنهجة من أجل التأثير على سلوك المجتمعات. كما أنه لطالما اقترن قطاع الإعلان بوصفه ذراعا لتمرير أجندات العولمة وتعزيز ثقافة الاستهلاكية وتسليع الأحداث والمناسبات خدمة لمصلحة فئة قليلة من ذوي الثروات الضخمة الذين يملكون كبريات الشركات العالمية. وعلى الرغم من ذلك لا يمكن في المقابل إنكار المنافع التي نتجت عن معيّة قطاع الإعلان للعولمة؛ فقد تأسست نتيجة لذلك صناعة متكاملة أسهمت في تحقيق فوائد اقتصادية واجتماعية، كما أنها عززت من مفاهيم مرتبطة ببعض أوجه تقدم البشرية مثل تحسين أسلوب الحياة والارتقاء بالذائقة العامة والوعي والمعرفة.
وبعيدا عن جدلية الدور - أو الضرر - الذي قد يؤديه قطاع الإعلان، فإنه يمكن التطرق إلى الترابط الوثيق بينه وبين الأحداث والمناسبات المهمة - وغير المهمة أيضا - بالنسبة للمجتمعات. لقد عززت بعض تلك الأحداث والمناسبات من مفهوم «موسمية الإعلان» نتيجة رغبة الشركات المعلنة في البناء على بعض العوامل التي تتيحها تلك الأحداث والمناسبات من أجل تفعيل حضورها في أذهان جمهورها المستهدف، أو تسهيل إيصال رسائلها إليهم، أو الارتباط بمشاعر أو قيم أو ذكريات محددة، أو استغلال النزعة الشرائية المتولدة أثناء تلك الفترات الزمنية المحددة.
تزدهر موسمية الإعلان في بعض الاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تبرز بعض الأحداث والمناسبات التي لا تخلو من الطابع التجاري ولا يفوّتها المعلنون ضمن أجنداتهم السنوية. وتمثل المناسبات الدينية مثل أعياد الميلاد ورأس السنة ويوم الهالوين وعيد الفصح وعيد الشكر، والمناسبات الوطنية مثل عيد الاستقلال ويوم العمال ويوم تذكر قتلى الحروب ويوم مارتن لوثر كينج ويوم المحاربين المتقاعدين، والمناسبات الرياضية مثل ليلة السوبر بول ومنافسات دوري كرة السلة وبطولات البيسبول، من أبرز الفترات الزمنية التي تشهد نشاطا إعلانيا ملحوظا تترجم عبره الشركات المعلنة المدى الذي وصلت إليه في إضفاء الصبغة التجارية على تلك الأحداث.
وتبرز بين تلك الأحداث ليلة السوبر بول Super Bowl التي تشهد مباراة بطولة الاتحاد الوطني لكرة القدم الأمريكية، حيث تبث في فترات الاستراحة المخصصة أثناء المباراة فواصل إعلانية عادة ما تظهر فيها مقاطع إعلانات قصيرة لشركات كبرى نظرا لارتفاع أسعار حجز تلك المساحات الإعلانية. وتكتسب تلك الفواصل شهرة واسعة على المستوى الشعبي لدرجة أن بعض عامة المشاهدين يهتمون بالحدث من أجل متابعة الإعلانات التي يتم بثها في الفواصل أثناء فترات الاستراحة، كما يقوم العديد من المختصين والمؤسسات المهتمة بقطاع الإعلان بإجراء تقييمات ومراجعات للإعلانات التي تبث في ليلة السوبر بول. وقد بلغ سعر شراء الفترات الإعلانية مستويات قياسية لتبلغ هذا العام 6 ملايين و 500 ألف دولار أمريكي للإعلان الواحد لفترة تبلغ 30 ثانية فقط، مرتفعا بأكثر من 120 ضعفا منذ العام 1968. وتبرز أهمية موسمية الإعلان في ليلة السوبر بول نظرا للإقبال الواسع من قبل الجمهور الأمريكي على متابعة المباراة التي تقارن شعبيتها بشعبية بطولة كأس العالم لكرة القدم، بما يضمن قدرة الشركات المعلنة على الوصول إلى أكبر شرائح ممكنة من جمهورها المستهدف والترويج لمنتجاتها أو للعلامة التجارية ككل.
أما في بريطانيا، فتبرز موسمية الإعلان في أعياد الميلاد بشكل ملحوظ لدرجة أن بعض أشهر إعلانات الموسم تأخذ حيزا ضمن أهم عناوين نشرات الأخبار التلفزيونية وصفحات الصحف البريطانية. ولعل من أبرز المعلنين الذين لا يفشلون في لفت الأنظار إليهم بشكل سنوي شركة جون لويس وشركاه John Lewis & Partners التي تمتلك أحد أشهر سلاسل المحلات المتنوعة في بريطانيا، حيث تبث الشركة إعلانها في الأسبوع الأول من نوفمبر - قبل موسم عيد الميلاد بأسابيع - تقوم عبره بالترويج لقيم إنسانية أو قضايا مجتمعية يتفاعل معها الجمهور بشكل واسع. كما يبرز ضمن المعلنين كذلك محلات سينزبريز Sainsbury›s وصيدليات بووتس Boots ومشروب كوكاكولا. وتتلخص أهمية موسم عيد الميلاد في تعزيز ارتباط الهوية التجارية للشركة ببعض القيم ذات الصلة بالموسم، مع تفضيل الاستمالات العاطفية من أجل تحقيق ذلك.
ولا يختلف الأمر كثيرا في المنطقة العربية وموسمية الإعلان في شهر رمضان المبارك. وبالرغم من جدلية إسباغ الطابع التجاري على مناسبة دينية خالصة، وارتباط الشهر الفضيل بممارسات استهلاكية مثل امتلاء الموائد والتسوق المفرط وتبادل الهدايا، إلا أن العديد من الشركات المعلنة تميل إلى التوجه للارتباط بقيم مرتبطة بالشهر الفضيل، أو التوعية ببعض القضايا الإنسانية أو المجتمعية، أو التوجه بشكل خالص لبناء الهوية التجارية في سياق منعزل تماما عن الإطار الزمني الذي تبث فيه الإعلانات. وقد شكل ذلك التوجه امتداده أيضا إلى سوق الإعلان المحلي في سلطنة عمان الذي شهد هو الآخر تطورا طبيعيا في انتقال الشركات من الإعلان في فترات جوائز فوازير رمضان إلى إنتاج إعلانات مخصصة لشهر رمضان وكذلك اختزال بعض الرسائل الإعلانية في ثواني معدودة تبث قبيل أذان المغرب أو بُعَيدَهُ. كما يمكن النظر إلى الفترة الزمنية المصاحبة للأعياد الوطنية كأحد أبرز المواسم الإعلانية التي يكرس فيها كل من الشركات المعلنة ووكالات الإعلان وشركات الإنتاج الفني ووسائل الإعلام جهودا وموارد من أجل الظفر بحصة من أذهان الجمهور المستهدف ترويجا أو ترويحا أو كلاهما معا.
بدر الهنائي عضو مجلس Forbes لخبراء التواصل
