معنى أن تملك مسكنا

14 يونيو 2021
14 يونيو 2021

قبل أسابيع أصدرت السلطنة قانونا جديدا ينظم منح المواطنين «الأراضي الحكومية السكنية». ومنذ صدوره كان القانون وما زال محل نقاش على المستوى العام. لم أشأ أن أعلق على الموضوع فور صدور القانون، رغم اهتمامي بموضوع ملكية الأرض منذ أن كنت طالبا أدرس الاقتصاد في مرحلة البكالوريوس، وقد أعددت حينها بحثا عنوانه «ملكية الأرض في الإسلام»، وذلك واحد من متطلبات النجاح في أحد المساقات الدراسية.

وقد نشرت مجلة «جبرين»، التي كان يصدرها نادي طلبة سلطنة عمان بالأردن في ذلك الوقت، ملخصا للبحث. ناقش الفقهاء منذ زمن بعيد، وكذلك المختصون في الاقتصاد الإسلامي في العصر الحديث موضوع تملك الأرض. وقد قسم بعضهم ملكية الأرض إلى قسمين، ملكية خاصة، سواء كانت للأفراد أو ملكا مشتركا لأكثر من فرد. أما الملكية العامة للأرض فقد قسمها الفقهاء كذلك إلى قسمين، ملكية عامة للدولة وملكية عامة للأمة. الملكية العامة للدولة هي تلك التي تتمثل في «بيت المال»، وغالبا ما تكون أراض زراعية أو ممتلكات أخرى وعقارات مثل الأسواق والحصون والاسطبلات وغيرها. ويبدو أن تلك الأراضي أصبحت «بيت مال» بسبب استصلاح الدولة لها أو بسبب شرائها من أصحابها، أو في إطار ما يسمى في الشريعة الإسلامية «التغريق» أي تأميم الأملاك الخاصة بأشخاص معنيين بسبب مخالفات ارتكبوها مثل ما يوصف بالطغيان أو «البغي».

ويرى الفقهاء أنه يحق للحكومة التصرف في أراضي بيت المال، سواء بالبيع أو بما يسمى «الاقطاع»، أي المنح للتملك المطلق أو المنح للانتفاع. أما الأرض التي هي ملك عام للأمة، فيرى هؤلاء الفقهاء أنه لا يحق للحكومة التصرف فيها بالبيع أو المنح للتملك، بل يجب أن تبقى ملكية عامة للأمة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل، ولكن يجوز للحكومة توزيعها على الناس للانتفاع بها فقط وليس تمليكها ملكية مطلقة.

المعلوم أن نظام الانتفاع بالأرض دون تملكها معمول به في أكثر دول العالم في الوقت الحاضر، حيث إن الأراضي العامة لا تملك ملكية مطلقة بل ملكية منفعة بعقود إجارة أو انتفاع قد تمتد لعشرات السنين، خاصة الأراضي المخصصة للاستثمار وللاستخدام غير السكني.

يمكن القول بعبارة أخرى: إن لدى الفقهاء تعريفين للملكية، هما الملكية المطلقة، وهي في الملكية الخاصة للأرض من قبل الأفراد أو الأسر أو المؤسسات الخاصة، وكذلك في الأرضي التي تملكها الدولة مثل أراضي وأملاك بيت المال ويمكن للحكومة بيعها أو منحها للناس. وإلى جانب الملكية المطلقة، هناك ملكية المنفعة، وهي في الأرض التي هي ملك الأمة ولا يحق للحكومة بيعها أو منحها إلا للانتفاع بها.

في الفترة التي تلت صدور القانون المذكور كنت أقرأ في كتاب بعنوان: THE FUTURE OF CAPITALISM Facing the New Anxieties أي مستقبل الرأسمالية: مواجهة المخاوف الجديدة. الكتاب من تأليف PAUL COLLIER أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة اكسفورد، وقد صدر عن دار بينغوين رودمان في المملكة المتحدة، عام 2018. بصراحة لم أجد الكتاب جذابا ولا مريحا للقراءة، ولكن كعادتي فضلت أن أتابع قراءته حتى نهايته. ومن حسن الحظ أني وجدت أن في الصفحات الأخيرة له ما شدني إلى كتابة هذا المقال للإدلاء برأي حول قضية تمليك الأراضي السكنية.

تحدث COLLIER في كتابه باختصار عن موضوع السكن في بريطانيا والتعديلات التي طرأت على أنظمة شراء المساكن وأثرها على تملكها من قِبل المواطنين والمقيمين في بريطانيا. ومما لفت انتباهي في الكتاب قوله إن علماء النفس اكتشفوا أنه بمجرد أن يمتلك الإنسان شيئا فإنه يصبح حريصا على عدم فقده، وإن التملك يحفز الشعور بالانتماء، ويقصد به الانتماء إلى المكان والوطن والمجتمع الذي يعيش فيه.

ومن هنا تأتي أهمية تملك الإنسان للمسكن الذي يأويه ويحيا فيه، وأهمية تمكينه من ذلك. كما تحدث COLLIER عن التسهيلات التي قدمتها بريطانيا في السبعين سنة الأخيرة لتمكين البريطانيين والذين يعيشون في بريطانيا من الحصول على مسكن. وخلص إلى أنه فيما يتعلق بالرغبة في الحصول على المساكن وتملكها، هناك نوعان من الناس، نوع يرى في المسكن مأوى home يأوي إليه ويسكن فيه هو وأسرته، ونوع آخر من الناس يرى في المسكن أصلا اقتصاديا أو مالياً ومحاسبيا asset يستخدمه لتحقيق مصالح اقتصادية ومالية أخرى.

وقال COLLIER في كتابه إنه في الفترات التي زاد فيها تقديم القروض أو الائتمان غير المقيد unrestricted credit زادت أسعار المساكن، وتمكن من يريدون الحصول على مسكن لغرض أن يكون أصلا، من مزاحمة من يريدونه من أجل المأوى والسكن وإبعادهم عن التملك إلى الاستئجار.

نستفيد مما جاء أعلاه ومن خبرات وتجارب وجهود أغلب بلدان العالم، أن مسألة توفير السكن للمواطنين تدور حول توفير المسكن home الملائم لمختلف فئات المجتمع، كل حسب حاجته وقدرته، وليس توفير أرض سكنية يبذل المواطن الكثير من الوقت والعناء والانتظار للحصول عليها، وإن حصل عليها فستكون في مكان قَصي يستدعي الانتظار لوقت أطول ليتمكن من بنائها، إما بسبب عدم وصول الخدمات إلى المنطقة التي تم منحه قطعة الأرض فيها أو لقلة ما يتوفر له من مال لبنائها أو لكلا السببين معا. وقد رأيت وربما لاحظ كثيرون غيري كيف يعيش المشردون ومن لا مأوى لهم تحت الجسور والأنفاق وعلى أطراف المنتزهات وضفاف الأنهار في كثير من دول العالم سواء الغنية أو الفقيرة. و قد أصبحت لدي قناعة أن عدم توفر المسكن هو أكبر دلائل الفقر، فكل من لا يملك مسكنا هو في نظري فقير.

لقد أصبح توفير المساكن للمواطنين ضرورة اجتماعية وواجبا من واجبات الدولة، مثله توفير التعليم والخدمات الصحية والمياه الصالحة للشرب وغيرها من الخدمات الأساسية، وهو حاجة مستمرة ومتجددة بتجدد حاجات الناس وبتزايد أعدادهم وبتغير مستويات معيشتهم. لذلك فإن السياسات الحكومية في مجال الإسكان يجب أن تتحول من توفير قطع أرض يطول انتظارها إلى توفير مسكن يناسب كل فئة من فئات المجتمع، مع تقديم التمويل الميسر اللازم لتملك المسكن، وذلك انسجام مع متطلبات الحاضر والمستقبل. كما أن اتباع سياسة توفير السكن بدل منح الأرض ينسجم مع مسمى الوزارة الذي تغير منذ سنوات طويلة من «وزارة الأراضي» عند إنشائها إلى «وزارة الإسكان والتخطيط العمراني» في الوقت الحاضر. وأرى أن ذلك التحول في السياسة ممكن من خلال مطورين يقومون بتطوير مخططات سكنية في المدن ثم منحها أو ببيعها للمواطنين حسب حاجتهم وحسب الأولويات والأسعار التي تحددها الحكومة. ويتم تمويل الشراء بقروض من بنك الإسكان أو من خلال برامج اقراض ميسر تقدمها البنوك التجارية بدعم مع الحكومة. أما في القرى والمناطق الواقعة خارج المدن والمخططات السكنية فيمكن الاستمرار في الوضع الحالي وتوزيع أراض لغرض السكن وتوفير التمويل الميسر اللازم لبنائه، أو اعتماد سياسة جديدة وبرامج مطورة للإسكان الريفي.

إن التركيز على توفير السكن المناسب للمواطنين سيحد من الارتفاع المفرط في أسعار الأراضي السكنية، وهو في الغالب ناتج عن السعي الحثيث من قبل البعض إلى تملك الأراضي لاستخدامها كأصل من أجل المضاربة أو للحصول على منافع اقتصادية، وليس من أجل بناء مسكن عليها.

** باحث في الاقتصاد السياسي وقضايا التنمية