مصطلح التنوير وتجاذب الآراء حوله

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

بدأ مصطلح التنوير يتداول في الفكر الغربي في أواخر القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، بعد تجريد الكنيسة الغربية من الكثير من مهامها وصلاحيتها التي حالت دون النهضة العلمية والفلسفية في الغرب، وامتد هذا المسار لعدة قرون عاش فيها العالم الغربي في تخلف وتراجع على كل المستويات الفكرية والعلمية، بينما كان العرب والمسلمون يشار إليهم من قبل الغربيين بالبنان، لما برز عندهم من التقدم والنهضة العلمية والفكرية والفلسفية والتقدم العمراني الذي برز في مدن عربية وإسلامية مثل بغداد والفسطاط ـ القاهرة الحاليةـ ودمشق والأندلس وغيرها في ظل الحكم العربي، بينما كان الغرب يعيش مرحلة تخلف وتراجع، أو ما سماه البعض بالظلام الدامس في القرون الوسطى وما بعدها، والسبب في ذلك أن الكنيسة وقفت سدا منيعا لكل تغيير في هذا الواقع الغربي، وما قامت به الكنيسة الأوروبية المخالف، ليس من أساس عملها الديني في أن تتدخل فيما هو خارج مجالها وصلاحيتها، عندما خرجت عن الكثير من مهامها المرتبطة بالجوانب الروحية في اللاهوت المسيحي، وأصبحت تتدخل في السياسة والعلم والاختراع، وإعطاء صكوك الغفران إلخ... ومنها مواجهة النظريات العلمية واعتبارها مارقة وخارجة عما هو سائد في الرؤى الكنسية بالغرب، وأدى إلى إزاحتها مما كانت تمارسه من قبل بعض المثقفين والفلاسفة، بعدما ضاقت النخب من القرارات التعسفية تجاه ما برز من العلوم والنظريات في القضايا التي تتعلق بالبحوث والدراسات، وتم تسمية ذلك بعصر التنوير، وإعطاء العقل المجال الذي ينطلق، بعيدا عن الوصاية الكنسية التي أدى بعضها إلى معاقبة العلماء المخترعين، ومن ضمنهم المخترع الشهير «جاليليو»، عندما أثبت نظرية أنّ الأرض تدور حول الشمس، كونها خالفت ما هو مسطور في بعض كتبهم.

ويرجع البعض إلى أن ظهور هذا المصطلح جاء للتعبير عن انتهاء الوصاية من القساوسة، وأن العقل أصبح حرا، ويقال إن من وضعه هو الفيلسوف «كانت» كمعبر عن الحركة العقلية في الغرب بعد إقصاء الكنيسة، ومما قاله «كانت» عن تبني مفهوم التنوير الذي يتقاطع مع الرؤية الكنسية، إن الهدف من طرح فكرة التنوير تعني: «خروج الإنسان من مرحلة اللا رشد.. واللا رشد يعني: عجز الإنسان عن استخدام عقله دون معونة من غيره. وشعار التنوير هو: لتكن لديك الشجاعة في استخدام عقلك.. وليس التنوير في حاجة إلا إلى الحرية». لكن هذه الرؤية من الفيلسوف «كانت» عن فكرة التنوير كما ظهر في الفكر الأوروبي، تعلق بأهمية الاستقلال الفكري للإنسان وحريته في أن يبدع بعقله وفكره دون أي وصاية عنه تحد من هذا الانطلاق الفكري والعقلي في المجال غير المتعلق بقضايا دينية.

لكن د. محمد عمارة في كتابه (معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام)، يرى أن الجذور الأولى لمصطلح التنوير الغربي، بدأ مع الفيلسوف: «فرانسيس بيكون» (1561ـ 1626)، في القرن السابع عشر الذي رفض تدخل الدين في المعرفة، لأن الدين ـ بحسب المفهوم الكنسي ـ « يحد من كل ألوان المعرفة». ولذلك يضيف د. عمارة في هذا الصدد لماذا هذا الهجوم والنقد العنيف على الكنيسة والقساوسة: «وحتى نفهم هذا المعنى للتنوير الأوروبي، لا بد من فهم الواقع الفكري الذي جاء هذا التنوير رافضا له ـ الدين الكنسي ـ وثورة عليه.. كانت الكنيسة قد غرقت في الفساد والاستبداد وجمّدت الحياة الدنيا والمعارف عندما قدستها وثبتتها بوضعها في قوالب اللاهوت المقدس والثابت».

ولذلك فإن الكثير مما أسهم في النهضة العلمية في الغرب، أو ما يسمى بعصر التنوير، كان بفضل اطلاع الغربيين، على ما ظهر لهم من العلوم عند بروز النهضة في الحضارة العربية / الإسلامية، ومنها دراسة بعض الطلبة الغربيين في المدارس العربية في الأندلس ـ أسبانيا ـ التي كانت أيضا إشعاعا علميا وحضاريا في القارة الأوروبية، والبعض يعتقد أن لابن رشد التأثير المبكر للتنوير الذي حدث بعد ذلك، وهذا الاطلاع على رؤية أو على العلوم العربية، سمّيت بـ(الرشدية اللاتينية)، التي كانت نتيجة لفكر ابن رشد، وهذا لا يتعلق بترجمة فلسفة أرسطو فقط، بل إن ابن رشد أضاف الكثير من الآراء والأفكار الجديدة إلى الفلسفة اليونانية، وخاصة قضية التآخي بين الدين والفلسفة، وهذا ما جاء في كتابه: (فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال)، وفي هذا الكتاب، اعتنى ابن رشد بقضية التوفيق بين الوحي والحكمة ـ الفلسفة ـ وسعى إلى المقاربة الواعية التي تبتعد عن الفكر اليوناني في نظرته الفكرية تجاه الكون والحياة، الذي له الكثير من الأفكار التي تفترق عن أصول الدين وقيمه، ومن هنا سار ابن رشد في هذا الاتجاه، مع أنه اختلف مع الإمام الغزالي في الفلسفة اليونانية في عمومها، وحدد الاختلاف فيها، وحاول ابن رشد ـ كما يقول العلامة د.محمد يوسف موسى ـ في كتابه (بين الدين والفلسفة): «أن يسلك طريقا وسطا، وذلك ببيان أن كلا من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأخرى، وأن لكل منهما ناسها وأهلها إلى آخر ما سنراه له من ضروب التوفيق بينهما، وهذا معناه أنه اختار في هذه العلاقة الوضع الذي يختاره كل مؤمن بالدين وقيمة العقل والفكر معا». وهذا كان مدار اهتمام ابن رشد وفكره مع أنه واجه نقدا شديدا لدفاعه عن فلسفة أرسطو.

لكن الفكر الرشدي التنويري، الذي تمت صياغته وفق حركة «الرشدية اللاتينية»، لكن تم الانحراف به عن الرؤية التي اختارها ابن رشد للتنوير الوسطي والذي آخى بين الحكمة والشريعة، وكان الانحراف، سببه الصراع الكبير الذي دار بين المثقفين في الغرب والكنيسة الغربية، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، وهذا ما جعل الضغينة للكنسية أن تعدت إلى الدين، وهو أيضا ردت فعل غير عقلانية، وهذا ما ظهر من هجوم ومخاصمة للدين في الغرب، على فعله القساوسة، ولا شك هذا لا يمثل رؤية ابن رشد، بل هو نتيجة من نتائج الصراع الذي كان عنيفا في الغرب، وانتهى بالانتصار على الكنسية، لكن د. محمد عابد الجابري، في كتابه: (في نقد الحاجة إلى الإصلاح)، يرى أن الكثير من المفكرين الغربيين تعرفوا على النهضة الفكرية والفلسفية في الإسلام، وتابعوا بشغف ما عرف عنه في هذه النهضة: «وقد واصل رجال النزعة الإنسانية هؤلاء، أمثال «لوكونت دي بولانفيي» الذي امتدح الإسلام ضدا على الكاثوليكية الرسمية، معركتهم ضد الكنيسة منوّهين بالإسلام وموقفه من الإنسان. كما تواصل الاهتمام بالقرآن وترجمته، فظهرت سنة ١٧٣٤ ترجمة جديدة له في لندن قام بها «ج.سايل» فانتشرت بسرعة في عدة بلدان أوروبية، وخصوصا أنها كانت مصحوبة بمدخل حول العرب وتاريخهم، الأمر الذي اهتم به الجمهور اهتماما كبيرا، كما اهتم بها رجال «الأنوار» أمثال فولتير، فكانت مصدرا لمعرفتهم بالإسلام». ويضيف د. الجابري في مناقشته لظهور النزعات الإنسانية في الغرب، والتي اقتربت من النظرة الإسلامية ومنها أهمية التنوير وإعطاء العقل حقه في البحث والنظر، لاقت اهتماما كبيرا لدى العديد من المفكرين بصورة لافتة، وهذا يعني أن هذه النخب، اطلعت عن الكتابات الإسلامية، ورؤيتها الإنسانية تجاه حرية الإنسان في الانطلاق والإبداع الفكري والعقلي، ولذلك كما يشير الجابري إلى أن «النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي ـ التي ازدهرت في القرن السادس عشر، والتي تعتبر بمثابة الأرضية الفكرية التي أسست لحركة الإصلاح الديني والنهضة الأوروبية عموما ـ انعكاس مباشر لتأثر المفكرين الأوروبيين، ابتداء من القرن الثاني عشر، بالثقافة العربية الإسلامية ونظرتها إلى الإنسان بوصفه أرقى المخلوقات».

وقد طرح الكثير من الباحثين المهتمين بهذه المسألة، مسألة التفريق بين الفكرة التي طرحت في قضية التنوير في الغرب، وبين الرؤية العربية الإسلامية في هذا المصطلح، والإشكال أن بعضا ممن تأثر بالفكر الليبرالي، يريد أن يتم تعميم النموذج كما سار عليه الغربيون، وهذا يحتاج إلى مناقشة أخرى للموضوع.