مخاطر التيسير الكمي الذي لا ينتهي

04 أغسطس 2021
04 أغسطس 2021

راغورام ج. راجان

في الأشهر الأخيرة، ارتفعت قراءات التضخم في الولايات المتحدة بسرعة كبيرة، وأصبحت أسواق العمل مُـحكَـمة للغاية. وفي أحد استطلاعات الرأي الحديثة، قال 46% من أصحاب الأعمال الصغيرة: إنهم لم يتمكنوا من العثور على عمال لشغل وظائف شاغرة، وأفاد 39% منهم أنهم زادوا أجور موظفيهم. مع ذلك، في وقت كتابة هذا التعليق، كان العائد على سندات الخزانة لعشر سنوات 1.24%، وهذا أقل كثيرا من معدل تضخم التعادل لعشر سنوات البالغ 2.4%. في الوقت ذاته، تقترب أسواق الأسهم من أعلى مستوياتها على الإطلاق.

لا بد أن يكون شيء ما في كل هذا غير منطقي. ربما تصدق أسواق السندات بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي عندما يقترح أن الضغوط التضخمية الحالية مؤقتة وأن الاحتياطي الفيدرالي قادر على الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة لفترة ممتدة. إذا كان الأمر كذلك، فإن النمو - المدعوم بالمدخرات المكبوتة والإنفاق الحكومي الإضافي الذي يجري التفاوض بشأنه حاليا في الكونجرس - لا بد أن يكون معقولا، ويجب أن يظل التضخم قريبا من الهدف الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي. ويبدو أن معدل تضخم التعادل يشير أيضًا إلى هذا السيناريو. لكن هذا لا يفسر سبب انخفاض سعر الفائدة على سندات الخزانة لعشر سنوات إلى هذا الحد، مما يشير إلى أسعار فائدة حقيقية سلبية على مدار العقد المقبل.

ماذا لو كان هذا صحيحا؟ ربما يؤدي انتشار المتحور دلتا من فيروس كورونا إلى التعجيل بعمليات إغلاق جديدة في البلدان المتقدمة وإلحاق المزيد من الضرر بالأسواق الناشئة. وربما تظهر متحورات أشد سوءا. وربما تنهار المفاوضات في الكونجرس، مع فشل إقرار حتى مشروع قانون البنية الأساسية المتفق عليه بين الحزبين.

لكن في هذا السيناريو، سيكون من الصعب تبرير انتعاش سوق الأسهم ومعدل تضخم التعادل. قد يكون أحد العوامل المشتركة التي تدفع أسعار الأسهم والسندات إلى الارتفاع (وبالتالي عائدات السندات إلى الانخفاض) بحث مديري الأصول عن العائد، بسبب الظروف التي أوجدتها السياسات النقدية المفرطة التيسير. هذا من شأنه أن يفسر لماذا أصبحت أسعار الأسهم (بما في ذلك «المتواصلة الارتفاع رغم كل شيء»)، والسندات، والعملات الرقمية المشفرة، والإسكان، سطحية بعض الشيء في الوقت ذاته. من منظور أولئك الذين يهتمون بسلامة وصحة أسعار الأصول، كان من الأنباء السارة إعلان رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي جيروم بأول الأسبوع الماضي أن الاقتصاد أحرز تقدما نحو النقطة التي قد يُـنهي عندها الاحتياطي الفيدرالي برنامجه لشراء السندات بقيمة 120 مليار دولار شهريا.

إن إنهاء التيسير الكمي تدريجيا يُـعَـد الخطوة الأولى نحو تطبيع السياسة النقدية، الذي هو في حد ذاته ضروري لتخفيف الضغوط التي تطالب مديري الأصول بتحقيق عوائد مستحيلة في بيئة منخفضة العائد. مع ذلك، لن تُـرضي بداية نهاية التيسير الكمي الجميع. إذ يرى بعض أهل الاقتصاد جانبا سلبيا كبيرا في سحب التسهيلات النقدية قبل أن يصبح من الواضح أن التضخم انطلق بالفعل.

لقد ولت الحكمة القديمة السائدة التي كانت تنبئنا بأن ظهور التضخم بالفعل يعني أن الأوان فات للتغلب عليه دون قتال مكلف. الواقع أن استمرار التضخم المنخفض لعقدين من الزمن أقنع كثيرين من القائمين على البنوك المركزية بأنهم يمكنهم الانتظار.

مع ذلك، حتى لو لم يكن صناع السياسات النقدية قلقين بشكل مفرط إزاء ارتفاع أسعار الأصول أو التضخم، فيجب أن يساورهم القلق بشأن خطر آخر يزيد من شدته التيسير الكمي المطول: تعرض الحكومة المالي لارتفاع أسعار الفائدة بشكل حاد في المستقبل.

على الرغم من ارتفاع الدين الحكومي إلى عنان السماء، ظلت مدفوعات الفائدة الحكومية منخفضة، بل انكمشت كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في بعض البلدان على مدار العقدين الأخيرين. ولهذا لا يشعر العديد من أهل الاقتصاد بالقلق من اقتراب الدين الحكومي في الاقتصادات المتقدمة من أعلى مستوياته بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن ماذا لو بدأت أسعار الفائدة ترتفع مع ثبات التضخم؟ إذا كان الدين الحكومي عند مستوى نحو 125% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن كل زيادة بمقدار نقطة مئوية في أسعار الفائدة تُـتَـرجَـم إلى زيادة بنسبة 1.25 نقطة مئوية في العجز المالي السنوي كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. هذا أمر لا يمكن تجاهله. فمع ارتفاع أسعار الفائدة عادة بنحو بضع نقاط مئوية على مدار دورة الأعمال، من الممكن أن يصبح الدين الحكومي مُـرهِـقا بسرعة كبيرة. قد يجيب خبراء الاقتصاد الرصينون على هذا: «انتظروا لحظة! ليس من الضروري ترحيل كل الدين بسرعة. ما عليكم إلا أن تنظروا إلى المملكة المتحدة، حيث يبلغ متوسط فترة الاستحقاق نحو 15 عاما». هذا صحيح، فإذا كانت آجال استحقاق الدين موزعة بالتساوي، فإن نحو 20% فقط من ديون المملكة المتحدة يجب إعادة تمويلها كل عام، مما يعطي السلطات متسعا من الوقت للاستجابة لارتفاع أسعار الفائدة. لكن هذا ليس سببا للشعور بالرضا عن الذات. الواقع أن متوسط آجال استحقاق الدين الحكومي أقل كثيرا في بلدان أخرى، وخاصة الولايات المتحدة، حيث يبلغ أجل الاستحقاق 5.8 سنوات فقط.

علاوة على ذلك، فإن ما يهم حقًا ليس متوسط استحقاق الدين (الذي يمكن أن ينحرف بفعل عدد قليل من السندات الطويلة الأجل)، بل بالأحرى مقدار الدين الذي سيبلغ أجل استحقاقه بسرعة ويجب أن يتم ترحليه بسعر فائدة أعلى. وعلى هذا فإن استحقاق الدين المتوسط (طول الفترة الزمنية التي سيبلغ عندها نصف الدين القائم أجل استحقاقه) يُـعَـد مقياسًا أفضل للتعرض لخطر تغيير سعر الفائدة. الأمر الأكثر أهمية هو أننا يجب أن نضع في الحسبان مصدرًا رئيسيًا لتقصير أجل الاستحقاق الفعلي: التيسير الكمي. عندما يعمل البنك المركزي على تجميع ديون حكومية مدتها خمس سنوات من السوق في إطار برنامجه الشهري لشراء السندات، فإنه بهذا يمول هذه المشتريات عن طريق اقتراض احتياطيات لليلة واحدة من البنوك التجارية والتي يدفع عليها فائدة (وهذا يسمى أيضا «الفائدة على الاحتياطيات الزائدة»).

من منظور الميزانية العمومية الموحدة للحكومة والبنك المركزي (والتي يجب أن نتذكر أنها كيان تابع مملوك بالكامل للحكومة في العديد من البلدان)، قامت الحكومة في الأساس بمبادلة دين الخمس سنوات بدين لليلة واحدة. وعلى هذا فإن التيسير الكمي يقود إلى تقصير متواصل لآجال استحقاق الدين الحكومي الفعلية وما يقابل ذلك من زيادة في تعرض الحكومة والبنك المركزي (الموحد) لارتفاع أسعار الفائدة.

تُـرى هل يشكل هذا أي أهمية؟ لنتأمل هنا متوسط أجل استحقاق الدين الحكومي في المملكة المتحدة. يتبين لنا أن أجل الاستحقاق المتوسط أقصر، عند مستوى 11 عاما، ويواصل الانخفاض إلى أربع سنوات فقط عندما نضع في الحسبان التقصير المدفوع بالتيسير الكمي.

وعلى هذا فإن زيادة بنحو نقطة مئوية واحدة في أسعار الفائدة من شأنها أن تزيد من مدفوعات فوائد ديون حكومة المملكة المتحدة بنحو 0.8% من الناتج المحلي الإجمالي - والذي يعادل نحو ثلثي الإحكام المالي في الأمد المتوسط المقترح على مدار ذات الفترة، كما يلاحظ مكتب مسؤولية الميزانية في المملكة المتحدة.

أما عن الولايات المتحدة، فليس فقط أجل استحقاق دينها الحكومي المستحق أقصر كثيرا مقارنة بالمملكة المتحدة، بل يمتلك الاحتياطي الفيدرالي بالفعل ربع هذا الدين أيضا. من الواضح أن إطالة أمد التيسير الكمي ممارسة لا تخلو من مخاطر.

** المحافظ السابق للبنك الاحتياطي الهندي، وأستاذ المالية في كلية الأعمال بجامعة شيكاغو.

** خدمة بروجيكت سنديكيت.