محمد حسين فضل الله في ذكراه

01 أغسطس 2021
01 أغسطس 2021

في الرابع من يوليو الماضي مرّت إحدى عشرة سنة على رحيل السيد محمد حسين فضل الله، الذي رحل عن دنيانا عام 2010، تاركًا وراءه رصيدًا كبيرًا ومثريًا من الفكر والتجديد والنضال ونقد الموروثات، والذي يمكن تلخيصه حسب رأي د. عبد الجبار الرفاعي، المفكر العراقي وأستاذ الفلسفة الإسلامية بقوله، أنّ فضل الله لم يقع أسير تمجيد السّلف، والثّناء على أخطاء التّاريخ، والانشغال بتحويل الهزائم إلى انتصارات، وتقديس كلّ ما يتضمّنه التّراث، وإنما تسلّح بمنظورٍ نقديّ، لا يخشى من مقاربة الموروث والواقع برؤيةٍ تحليليّةٍ نقديّة، والوقوف على ما يكتنفه من ثغراتٍ بكلّ جرأة، "لذا لم يكفّ فضل الله في محاضراته وخطبه وكتاباته عن النّقد والمراجعة، فقد كان مسكونًا بالتّساؤل، وظلّ يشدّد على ضرورة طرح الأسئلة، ويحثّ على أنّ السّؤال مفتاح المعرفة، وما من سؤال إلا وله أجوبة".

نحن أمام رجل استثنائي بكلّ المقاييس، ولا يكفي مقالٌ واحد ولا كتابٌ واحد لتغطية أفكاره ومواقفه، فقد اعتُبر المرشدَ الروحي لحزب الله لدى تأسيسه عام 1982، وهو صاحب الخطاب المعادي للصهيونية فعلا وقولا، فعمل على مقاومة الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان والأراضي الفلسطينية، ومن أشد المنتقدين للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط وتحالفها مع إسرائيل، وعارض بقوة وجود قوات المارينز الأمريكية في بيروت؛ والحالةُ هذه لم يكن غريبًا أن يتعرض لعدة محاولات اغتيال، كانت الأبرز في الثامن من مارس 1985، عندما انفجرت سيارة مفخخة بالقرب من منزله في بيروت، وتسبب الانفجار في مقتل أكثر من ثمانين شخصًا وإصابة مئتين آخرين، جميعهم من المدنيين، بعد سلسلة من الهجمات على أهداف أمريكية في لبنان، كما قُصف بيته في حرب يوليو عام 2006 من قبل الجيش الإسرائيلي.

دينيًا كان لفضل الله آراء واجتهادات جريئة خالفت المرجعيات الدينية الأخرى، عرّضته للانتقاد من قبل عدد من المراجع والعلماء، بسبب اختلافه معهم في تحديد بعض التفاصيل والجزئيات، وتشكيكه ببعض الحوادث التاريخية التي يرى الشيعة أنها ثابتة ومن المسَلمات، وممّا انتُقد فيه رفضه وتحريم اللعن والسب والتوجه بالإساءة إلى صحابة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، لدرجة أن وصل الأمر ببعض المرجعيات والعلماء أن يصفوه بأنه "ضال مضل" ويحرموا تقليده وقراءة كتبه والترويج لها، هذا غير فتاواه الأخرى التي أثارت نقاشات، منها تلك التي تحظر عادة التطبير أثناء مراسم عاشوراء. بعد أن كثر الحديث عن فضل الله، أصدر المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي فتوى بحرمة النيل منه، واصفًا إياه بأنه من أعلام المذهب الشيعي بطهارته وإيمانه وجهاده.

كان فضل الله من المفكرين المهمومين بقضايا الأمة العربية والإسلامية؛ وظلّ طوال حياته يناضل بأفكاره المستنيرة، متأسفًا على الحال التي وصلت إليها الأمة، باحثًا عن حلول تعيد إليها كرامتها؛ لذا كان مناصرًا ومؤيدًا بشدة لحركات المقاومة في لبنان وفلسطين؛ وكان موقفه من الكيان الصهيوني موقفًا ثابتًا وقويًا لا يتزحزح، نتج عنه إنشاء حزب الله اللبناني، وكان يرى أنّ إسرائيل "تمثّل الخطيئة الغربية الأكثر وضوحًا ووحشيّة في التاريخ الحديث، ووصمة العار الكبرى على جبين كلّ الدّول الغربية التي رفعت شعارات حقوق الإنسان، وعملت بتواطؤ غير مسبوق على تشريد شعب كامل من أرضه، ولا تزال تواصل جريمتها على حساب ما تسمّيه قانونًا دوليّا". ومن هنا ظلّ فضل الله صامدًا في موقفه الرافض للهرولة العربية لإسرائيل، ويرى أنّ هناك شيئًا لافتًا برز في الحركة العربيّة الرسميّة منذ عام 2006، منذ هزيمة إسرائيل في لبنان، تمثّل في التودّد العربي لإسرائيل، والذي تمظهر في اجتماعات أمنيّة أو في لقاءات علنيّة، أو في تنسيق يستهدف قوى الممانعة والمقاومة، حيث تبتعد الأنظمة عن شعوبها أكثر، وتقترب من إسرائيل أكثر، كلّما سجّل الخطّ التصاعدي للمقاومة انتصارًا جديدًا في لبنان وفلسطين والعراق وغيرها من المواقع، وهو الأمر الّذي يستدعي - حسب رأيه - تنسيقًا أكبر بين قوى الممانعة والمقاومة، بعيدًا من كلّ الأطر المذهبيّة والحزبيّة التي يحاول فريق أمريكا من العرب أن يلعب عليها. ولستُ أدري ماذا كان سيقول فضل الله عن الهرولة العربية وموضة التطبيع الحاصلة الآن بين بعض الدول العربية وإسرائيل؟!

كان رحمه الله يؤمن بالأمة الواحدة التي لا تتجزأ، ويقول: "هناك موتٌ يفزعنا ويرعبنا؛ هو موت الأمّة، وأن يفقد الناس معنى الأمة، ويصبحوا مجرَّد وجودات منفصلة"؛ ويعلل أسباب ذلك بأنّ كلّ لعبة السّياسة الدّوليَّة على مستوى الثقافة والاجتماع والسياسة، كانت تتحرّك في حياتنا، بألا تولد فينا الأمَّة. ولتحقيق هدف تفتيت الأمة، يرى فضل الله أنّ اللعبة انطلقت منذ مطلع القرن الماضي لتلغي معنى الأمّة الإسلاميَّة على أساس أنَّ هناك أمّة عربيَّة، وأمّة تركيَّة، وأمّة كرديَّة، وأمّة فارسيَّة، وما إلى ذلك، ثمّ تطوَّرت اللّعبة فأصبحت المسألة أنّه ليس هناك أمّة عربيّة.. هناك أمّة لبنانيّة، وأمّة سوريّة، وأمّة عراقيّة، وما إلى ذلك، وهكذا - حسب رأيه - بدأت تصغر القضايا حتى أصبح الإنسان في نفسه أنّه هو أمّة وحده، وبدأ كلُّ إنسان يفكِّر في آلامه الصَّغيرة بعيدًا عن آلام الأمَّة، ويفكِّر في انتصاراته الصَّغيرة بعيدًا عن انتصارات الأمَّة.

كم كان فضل الله محقًا في رأيه هذا؛ فواقع الأمة الآن خيرُ دليل على ما ذهب إليه، فقد عشنا ورأينا كيف انقسمت الأوطان العربية، وكيف أصبحت تحارب بعضها بعضًا، كما ظهرت حركاتٌ انفصاليةٌ تنادي بالقُطرية، ومنها حركاتٌ تنادي بالعودة إلى الفرعونية والبربرية، وفي الأفق تبدو تقسيماتٌ لدول عربية قائمة على أسس عرقية، تأكيدًا على أنّ مفهوم الأمة قد تراجع، وهو في طريقه إلى زوال؛ لأنّ المرحلة الآن هي مرحلة تفتيت الدّول والناس والشعوب في كلّ موقعٍ من المواقع، وما يحصل في العراق الآن، وما حدث في السودان هو أوضح دليل، وصورة واضحة عما يراد لهذه الأمة، وهو سيتحقق لا محالة؛ ولكن يبقى المؤسف أنّ كلّ ما حدث للأمة إنما حدث بتآمر عربي واضح، بدأ أساسًا بغياب الدول الأساسية عن دورها القيادي، فظهرت كياناتٌ لا تملك مواصفات القيادة، أرادت أن تملأ الفراغ، فأصبحت تدير الأمور وتدبر المؤامرات.

ترك فضل الله الكثير من المؤلفات، توزعت ما بين مجلدات وكتيبات صغيرة، في القرآنيات والفقه والبحوث الفقهية والاجتماعيات، وله تفسيرٌ للقرآن الكريم بعنوان "من وحي القرآن"، عبارة عن عشرين مجلدًا؛ وأنشأ جمعيات المبرات الخيرية، التي انبثقت عنها الكثير من المدارس والمستشفيات والمعاهد الخيرية.

إنّ الأمة بحاجة فعلية إلى المخلصين من أبنائها من الزعامات والقيادات والعلماء والمفكرين، وهي بحاجة إلى أكثر من فضل الله، من المؤمنين بوحدتها وقوتها ومستقبلها.