مجلة الوعي.. قراءة في التحول الفكري

01 أغسطس 2021
01 أغسطس 2021

منذ مدة ليست بالطويلة.. دعيت لحضور لقاء في بيت الصديق إبراهيم الصلتي بولاية بوشر، وقد ضم اللقاء لفيفاً من العمانيين من مختلف محافظات السلطنة، وقد شكّل الحضور تنوعاً جغرافياً وفكرياً، كما تنوعت رؤاهم السياسية ومذاهبهم الدينية، بيد أن الجميع كانوا يتناقشون بمودة وتقدير، رغم التباين في طرح الأفكار؛ بما يجعل بعضهم أقصى اليمين والآخر أقصى اليسار، وبين الطرفين طرائق قدداً. مشهد ينم عن قدرة المجتمع بأن يخلق تنوعاً؛ متداخلاً في الآراء رغم تعدده، ومتسامحاً في الأطروحات رغم الاحتفاظ بالخصوصية، والخصوصية هنا ليست معبرة عن جماعة بعينها بقدر ما هي فردية، ولربما التقى رأي المسقطي مع رأي الظفاري، مع تباعد الجارين في رأييهما.

لن أزعم بأن هذا المشهد يمثّل كل المجتمع العماني بذات المستوى، فلا زالت هناك خصوصيات جماعية، لكن ذلك دفعني بأن أمضي حُقباً في الطريق الذي اقتفيته في فهم الاجتماع العماني؛ قديمه وحديثه، فهو مجال من المهم دراسته، ولا يزال بكراً.

في هذا السياق.. وبالذات في مجال قراءة تأثير التحولات الفكرية على الدولة الحديثة؛ جعلني أبحث في مرحلتها المؤسِسة؛ وهي عقد السبعينات المنصرم، وقد قدمت بعض القراءات، فانبجس تفكيري بدراسة مجلة «الوحي»، فشرعت في جمع أعدادها قصدَ تقديم دراسة عنها، لتُمكِّن الباحث بأن يرجع إليها لفهم جانب من هذه المرحلة. وبينما أبحث عن المجلة اكتشفت أن هناك مجلة أخرى كانت تصدر متزامنة معها تقريباً، وباسم قريب من اسمها؛ وهو «الوعي». فطفقت أسأل عنها، فعرفت أنها كانت تصدرها جماعة اللواتيا بمطرح، فوجدتني مشدوداً لدراسة هذه المجلة، لفهم جانب مهم من هذا التحول الفكري، كما أنني كنت أتردد على مكتبات مطرح أيام دراستي الجامعية، ومعظم مقتنياتي المعرفية عن المدرسة الشيعية في تلك المرحلة كانت منها.

ولمّا كنّا في لقاء بوشر التقيت بالصديق محمود اللواتيا؛ فسألته عن أعداد «الوعي»، فكان جوابه مفاجأة سعيدة لي، حيث قال: بأنها مجموعة في كتاب منشور، فقلت له: أين أجده؟ فقال: أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك. وصدقاً نطق وفعلاً أنجز.. فإذا به يطلب بالهاتف بعض نسخ الكتاب، وأعطاني إحداها، فمنحني فرصة لدراسة جانب من تحولات مجتمعنا الفكرية.

المجلة.. أصدرها شباب من اللواتيا في مطرح؛ بعضهم تربطني بهم الآن معرفة، ومنهم أصدقاء أعزة، ولقربي منهم يعطيني فرصة لدراسة هذا الجزء الأصيل من مجتمعنا، ولمّا أقول «الأصيل»؛ فهو ليس ثناءَ مجاملة، بل توصيف لمكوِّن من المجتمع العماني، يشعر بانتمائه العميق له، يؤثر فيه ويتأثر به، ودراسته واجبة علمياً لتحليل الاجتماع العماني، بيد أنه مكوّن واسع؛ ولذلك.. سأقتصر على قراءة عجلى لمجلة «الوعي».

في السلطنة.. شكّلت السبعينات مرحلة انفتاح مفاجئ بعد الانغلاق الطويل الذي عاشته عمان منذ بداية القرن العشرين الميلادي تقريباً؛ مقارنة بالانفتاح الذي تعيشه المنطقة العربية عموماً، وهو انفتاح أصاب كل مفاصل الاجتماع العماني؛ الإنسان والمجتمع والدولة، فجعل كل جانب من المجتمع يلتف حول خصوصيته، وهي خصوصيات من المهم دراستها، وما يعنينا هنا هو مجلة «الوعي»؛ حيث عكست محاولة الشباب اللواتيا الالتجاء إلى خصوصيتهم فيما يتعلق بالفكر الديني، ولنستبين ذلك.. دعونا نلقي نظرة على المجلة.

«الوعي».. تقع في أحد عشر عدداً، كانت (تصدرها مكتبة الرسول الأعظم «ص» العامة) بمطرح، صدر (العدد الأول - غرة محرم الحرام سنة 1398م) بعنوان (نشرة الوعي الإسلامية)، وقد أريد لها أن تكون مجلة منذ العدد الأول، حيث إن بنيتها ومواضيعها وشكلها قائم على أساس مجلة، كما جرى التصريح بذلك منذ العدد الأول في «همسات الختام»، ولكن يبدو بسبب شروط تسجيلها حينذاك لم يكن بمقدورها أن تصدر باسم مجلة، فصدرت باسم نشرة، بموافقة من الجهة المعنية، وقد تقدمتْ إليها بالشكر في «تحية اللقاء»: (ولا يفوتنا أن نسجل لوزارة الإعلام والثقافة جزيل شكرنا وتقديرنا لتشجيعها على إصدار هذه النشرة بإجازتها وموافقتها). والغلاف.. يحمل شعار مكتبة الرسول الأعظم. وآخر عدد منها صدر في (محرم 1400هـ)، بدون ذكر سبب للتوقف.

تغيّرت النشرة منذ العدد الثاني لتؤكد على طابع المجلة، فيقتصر الغلاف على اسم «الوعي»؛ وتظهر البطاقة التعريفية على عادة المجلات في الصفحة الثانية؛ (الوعي.. شهرية ثقافية إسلامية عامة)، مع باقي المعرِّفات التقليدية، كما أن شعار المكتبة الذي يواصل ظهوره في كل أغلفة الأعداد تطور من شكله البسيط ليأخذ طابعاً «رسمياً» يشيء بهُوية المكتبة حينها.

غلاف أية مجلة بوجهيه؛ الأمامي والخلفي يحمل رمزية تشير غالباً إلى رؤية المجلة وهُويتها، وقد لخصت «الوعي» ذلك على غلافها، مما يدل على إدراك مُصْدِرِي المجلة ما يريدون، وهم بذلك يعكسون الحالة الفكرية التي يعشيها مجتمعهم، وبالمقدار نفسه رغبتهم في رسم مستقبل هذه الحالة، ففي كل الأعداد حملت الواجهة الأمامية ما يعبّر عن رؤية المجلة؛ بصور ودلالات تشير إلى توجههم الإسلامي، في حين توشّى الغلاف الخلفي بصور من المجتمع العماني من مختلف مناطق السلطنة، مما يدل على أن عمق هويتهم كان باتجاه عمانيتهم. وبين الرؤية والهُوية تصب معظم مواد المجلة، والمجال هنا.. لا يسع بأن استطرد في الحديث عن ذلك كله، وإنما أدعو القارئ والباحث للرجوع إلى المجلة التي صدرت في كتاب بعنوان «أعداد مجلة الوعي التاريخية».

ما يهمني هنا.. قراءة الحالة الفكرية التي مرّت بها الجماعة أثناء صدور المجلة؛ وهي حالة تنم عن توجس من الانفتاح الذي تعيشه السلطنة في عقد السبعينات، توجس لا يقتصر على عمان، بل يكاد يعم كل المنطقة التي رضخت للطفرة النفطية وتداعياتها. فالمجلة.. صدرت تحت انحياز واضح للوطنية العمانية، فأغلب الكُتّاب كانوا عمانيين، كما كانت المواضيع الاجتماعية -وليست الفكرية العامة- عمانية، ولم نرَ فيها انعكاساً خارجياً مباشراً، وقد سعت أن تعبّر عن عمانيتها بالصورة والنص، أما الصورة فبعرض مشاهد عمانية، وأما النص فبنشر قصائد وحوارات عمانية، بل دعت عموم الكتّاب العمانيين إليها، عبر منشور للمكتبة التي تصدرها: (تدعو جميع المواطنين للتعاون والعمل من أجل نشر الوعي الإسلامي والثقافة السليمة).

وبمقابل هذا الانحياز الوطني.. كان هناك توجس من الانفتاح على الخارج، فرغم أن المجلة صدرت تحت «مرشدَين دينيَين» غير عمانيين: السعودي حسن الصَّفّار، ثم العراقي كاظم السباعي، إلا أنه لم تحضر خصوصيات سعودية أو عراقية في المجلة، فضلاً عن غيرها من الدول، اللهم.. ما عدا المشتركات الإسلامية والإنسانية العامة.

وإذا كانت الوطنية العمانية تحدد هُوية هذه الجماعة؛ فإن المدرسة الشيعية هي محدد أخص لها. ومع رقي التعامل مع الآخر؛ إلا أن انفتاحها على فكر المدارس العمانية الأخرى كان حينها محدوداً، واقتصر على ما هو مشترك عماني، من مثل قصيدة للشاعر العماني هلال بن بدر البوسعيدي «روع الكون» في مقتل الحسين بن علي، و«وجه مشرق من تاريخ عمان» عن الدبلوماسي أحمد بن نعمان الكعبي، وبعض اللقاءات الأدبية العامة كاللقاء مع الشاعر عبدالله بن علي الخليلي والشاعر هلال بن سالم السيابي.

يمكن أن نقرأ في المجلة كذلك خوفاً على القيم الاجتماعية المتعلقة بالمرأة، فحضور مواضيعها كان قليلاً، ومقتصراً على الوعظ الأخلاقي واستحضار النماذج النسائية من التاريخ الإسلامي، بل أدّى الحال إلى طمس وجوه النساء في أحد الأعداد.

أربعون عاماً.. مضت -منذ توقف المجلة- كانت كافية أن تغيّر كثيراً من الاجتماع العماني، لنصل إلى لحظة الانفتاح؛ بل الاندماج، التي تحدثت عنها في بداية المقال، والتي حصلتُ فيها على أعداد المجلة.