مجزرة جنين... ومقدمات الانتفاضة الفلسطينية ؟!
عندما تمت الإشارة قبل أسابيع إلى أن من أبرز نتائج تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة التي تعد أكثر الحكومات يمينية في تاريخ إسرائيل، برئاسة بنيامين نتانياهو، هي التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والدفع نحو اشتعال انتفاضة فلسطينية جديدة في الضفة الغربية خلال وقت قريب، لم يكن ذلك سوى قراءة للمعطيات الراهنة، وللتوجهات والاحتمالات المتوقعة للتفاعلات التي يمكن أن تترتب على تشكيل حكومة، كالتي شكلها نتانياهو. وقد أثبتت التطورات والأحداث، بعد أقل من أسبوع من تشكيل الحكومة، وحتى الآن، أن حكومة نتانياهو الجديدة هي أقرب ما تكون إلى حكومة الحرب، حتى وإن لم تكن مستندة إلى تحالف بين الليكود والأحزاب الكبيرة في إسرائيل كالمعتاد.
وعلى أية حال فإن الأيام القليلة الماضية أثبتت بوضوح أن الحكومة الإسرائيلية تمارس سياسة التصعيد المتواصل والممنهج ضد الفلسطينيين، غير عابئة بما يمكن أن تؤدي إليه هذه السياسة من نتائج خطيرة، ليس فقط في داخل الأراضي المحتلة، ولكن أيضا داخل إسرائيل ذاتها. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار إلى عدد من الجوانب من أهمها ما يأتي: أولا، أن السياسات الإسرائيلية على مدى السنوات الماضية وخاصة في ظل حكومات يترأسها نتانياهو أدت إلى توقف، أو بالأحرى إلى إغلاق مسار السلام، وعلى يد نتنياهو نفسه منذ عام 2014؛ بسبب رفضه وقف بناء المستوطنات؛ لكي يتم استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وكذلك رفضه لحل الدولتين، ورفض التعاون مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتمسكه بصيغة « السلام مقابل السلام «كبديل عن صيغة» الأرض مقابل السلام التي وافق عليها المجتمع الدولي، بما في ذلك القوى الإقليمية والدولية المعنية بالشرق الوسط والسلام في هذه المنطقة الحيوية. ثم جاءت حكومة نتانياهو، بأعضائها وبتوجهاتهم الأيديولوجية واليمينية شديدة التطرف، لتنهي أي أمل للفلسطينيين في استجابة إسرائيل لمتطلبات السلام العادل والشامل، وفي إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الخامس من يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، على الأقل في ظل الوضع الراهن في إسرائيل.
وبالرغم من أن التصعيد الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة لم يكن مفاجئا، إلا أن سرعة ممارسته، وكذلك درجة العنف المستخدمة، والرغبة في التضييق أكثر على المعتقليين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وإلغاء امتيازات وتسهيلات حصلوا عليها من قبل - حسبما قرره «بن غفير» وزير الأمن الداخلي شديد التعصب قبل أيام - من ناحية، والإجراءات العقابية التي قررها مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر ضد السلطة الفلسطينية يوم 19 يناير الجاري بسبب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة طلب مشورة محكمة العدل الدولية حول الاحتلال الإسرائيلي الطويل الأمد للأراضي الفلسطينية والممارسات الإسرائيلية في القدس المحتلة، ومن هذه الإجراءات تحويل إسرائيل أكثر من 37 مليون دولار من الأموال الفلسطينية لديها لصالح أهالي ضحايا المقاومة الفلسطينية من الإسرائيليين من ناحية ثانية؛ هيأت المناخ لحدوث مزيد من التصعيد في الضفة الغربية، ومن ثم انفجار الأوضاع فيها بشكل مفتوح على كل الاحتمالات، بما فيها اندلاع انتفاضة جديدة. ولعل ما ساعد على ذلك أيضا أن الوزير المتطرف «بن غفير » وزملاءه في حكومة نتانياهو أرادوا اتباع سياسة جديدة لفرض رؤاهم وتوجهاتهم ضد الفلسطينيين، في القدس ومدن الضفة الغربية الأخرى، وعبر الأساليب العسكرية، واستخدام القوة المفرطة، وذلك بموافقة نتانياهو نفسه بالطبع.
ومع نهاية الأسبوع الماضي انتقل الأمر إلى مستوى أعلى من التصعيد على الأرض، فقد قامت القوات الإسرائيلية باقتحام مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، حيث قتلت عشرة فلسطينيين وجرحت نحو عشرين آخرين، بعضهم في حالة الخطر يوم الخميس 26 يناير الجاري، كما تكررت اقتحامات المسؤولين والمستوطنين الإسرائيليين وممارستهم لطقوس دينية في باحات المسجد الأقصى المبارك، في حراسة مشددة من الشرطة الإسرائيلية، وفي تحدٍ صارخ ومباشر لمشاعر الفلسطينيين والعرب والمسلمين. وكرد على ذلك قام أحد الشبان الفلسطينيين بفتح النار على إسرائيليين لدى خروجهم من كنيس في مستوطنة النبي يعقوب في القدس مساء الجمعة الماضي 27 يناير الجاري، حيث كانوا يحتفلون بذكرى المحرقة (الهولوكوست) وقتل ثمانية آخرين. كما قام فتى فلسطيني (13 عاما) بإطلاق النار في سلوان بالقدس فجرح اثنين من الإسرائيليين. وعقب ذلك قامت القوات الإسرائيلية باقتحام مخيم شعفاط قرب القدس بحجة أن مطلق النار في مستوطنة «النبي يعقوب» جاء منه، وخلال الاقتحام مساء الجمعة، والاشتباك بين المقاومين الفلسطينيين وجنود الاحتلال تم إسقاط طائرة إسرائيلية بدون طيار.
ثانيا، أنه في الوقت الذي حاول فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي طمأنة الإسرائيليين، حيث طلب منهم «النوم بهدوء» فإن حكومته اتجهت نحو مزيد من التصعيد العسكري والسلوك الهمجي ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، فقد رفعت الشرطة الإسرائيلية حالة التأهب الأمني في الضفة إلى الحالة القصوى، كما أعلن الجيش الإسرائيلي الاستعانة بوحدات القبة الحديدية تحسبا لإطلاق صواريخ فلسطينية ضد مستوطنات غلاف غزة أو حتى ضد القدس المحتلة، فضلا عن إعلانه نشر كتيبة عسكرية إضافية في الضفة الغربية اعتبارا من يوم السبت الماضي. وتجدر الإشارة إلى أن ما يثبت الاتجاه الإسرائيلي إلى مزيد من التصعيد خلال الأيام القادمة أن نتانياهو أعلن عن أنه تم اتخاذ مجموعة إجراءات في إطار ما يجري في الأراضي المحتلة، وأنه سيتم عرضها على الكنيست الإسرائيلي للموافقة عليها، ومن غير المستبعد أن يكون من بين تلك الإجراءات مزيد من التصعيد ضد السلطة الفلسطينية وحتى ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفسه، وقد يصل الأمر إلى حد إنهاء السلطة الفلسطينية ذاتها، وإعادة السيطرة على أهم مدن الضفة الغربية خلال الفترة القادمة، خاصة أن الرئيس الفلسطيني أعلن أنه يمكن وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، الذي أقرته اتفاقية أوسلو عام 1993، وهو التنسيق الذي تعول عليه إسرائيل في حفظ الأمن في الضفة الغربية المحتلة. ومع التأكيد على أن هذه الخطوات المتبادلة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية تزيد تفاقم الأوضاع في الأراضي المحتلة بشكل خطير، ومن ثم تدفع بشكل سريع نحو حدوث انتفاضة فلسطينية، لن تقتصر بالضرورة على الضفة الغربية، خاصة في ظل مواقف المنظمات الفلسطينية في قطاع غزة، ولا سيما حركة الجهاد الإسلامي - حيث اقتحمت إسرائيل مخيم جنين يوم الخميس الماضي بحجة البحث عن مجموعة من رجال المقاومة الفلسطينية تابعة لحركة الجهاد. أما إعادة السيطرة على الضفة الغربية والإساءة للرئيس محمود عباس فإنها تعد قرارا خطيرا بالنسبة لإسرائيل لما سيترتب عليها من نتائج وأعباء على إسرائيل بحكم قواعد القانون الدولي، باعتبارها قوة احتلال. كما سيكون ذلك بمثابة شرارة أخرى لانتفاضة فلسطينية ستكون بالضرورة أكثر عنفا من الانتفاضات السابقة؛ خاصة أن إسرائيل لجأت بالفعل إلى استخدام القوة المفرطة في الضفة الغربية.
ثالثا، أنه مع الوضع في الاعتبار أن لغة التنديد باقتحام إسرائيل لمخيم جنين كانت أقل حدة وأكثر مرونة بشكل ملحوظ من لغة التنديد بحادث إطلاق النار في مستوطنة النبي يعقوب بالقدس، التي وصفها البعض بأنها «عمل إرهابي»، وهو ما لم يصف به اقتحام مخيم جنين !!، فإن رد الفعل الأمريكي والغربي بوجه عام، والمساندة الأمريكية المبالغ فيها لإسرائيل، لا تشكل فقط نوعا من « الكيل بمكيالين»؛ لأن اقتحام المخيمات الفلسطينية هي أعمال عسكرية ضد مدنيين أيضا، ولا يمكن وصف ذلك بأنه «عمل إرهابي» إذا حدث ضد إسرائيليين، وأنه «عمل مشروع أو للدفاع عن النفس» إذا حدث ضد فلسطينيين، فالإدانة يجب أن تشمل الجانبين من منطلق رفض إطلاق النار على المدنيين من حيث المبدأ، فلسطينيين كانوا أو إسرائيليين أو غيرهم، ولكنها تشكل أيضا تشجيعا للإسرائيليين على التصعيد والاستمرار فيه في الواقع.
