ما قبل الإقناع
قد تكون من أبرز الملاحظات التي تطرح وتُتداول من قبل المجتمع حول ما يصاحب القرارات والسياسات الصادرة عن مختلف المؤسسات من أنشطة توعوية وإعلامية هي أن تلك الأنشطة تأتي فجأة - وقد ترحل كذلك فجأة دون استدامة الرسالة الإعلامية - ما قد يؤدي إلى التقليل من مستويات الوصول أو الإقناع أو التأثير. وبينما تم التطرق في أكثر من سياق عبر هذه المساحة إلى وجود عناصر هامة من أجل ضمان الوصول والإقناع والتأثير، سواء عبر انتقاء الرسالة الإعلامية المصاحبة أو أنواع المحتوى أو تعددية القنوات أو التكرار من أجل الاستدامة؛ فإنه قد يكون من المفيد التطرق إلى عامل لا يقل أهمية وهو التهيئة التي تسبق الأنشطة الإعلامية أو الأطر التي تمهد لاستقبال الجمهور المستهدف الرسالة بالطريقة المنشودة.
وبينما تلجأ العديد من المؤسسات إلى مفهوم «العلاج بالصدمة» - ربما دون قصد في كثير من الأحيان - إلا أن ذلك لا يعني بالضرورة أن تلك الممارسة تحقق النتائج الإيجابية التي قد ترتبط بالمعاني المباشرة أو غير المباشرة لكلمة «علاج». إن إخراج السياسات والقرارات إعلاميا غالبا ما تواجهه بعض التحديات المرتبطة بعوامل مختلفة قد يكون أبرزها مدى اهتمام الجمهور بذلك الموضوع، أو مدى ملامسته لحياتهم اليومية أصلا، أو ما إذا كان يواكب تطلعاتهم وتوقعاتهم، أو حتى الجوانب المتعلقة بتوقيت تلك السياسات والقرارات وأي الجهات تصدرها والكيفية التي تتم بها الأنشطة التوعوية والإعلامية، وأخيرا مستوى وعي الجمهور بذلك الموضوع وارتباطاته وأبعاده؛ لذلك فإن من المهم أن تسعى المؤسسات عموما والفرق المعنية بالتواصل والإعلام في المؤسسات بوجه خاص إلى الإلمام بتلك العوامل، ومحاولة قياس مدى تأثيرها على الأنشطة التوعوية والإعلامية المصاحبة للسياسات والقرارات، وإيجاد الحلول والآليات والأدوات التي تضمن تقليل تأثير تلك العوامل على كفاءة الرسالة الإعلامية على مستويات الوصول والإقناع والتأثير.
غير أن هذا الهم ليس محصورا على محيطنا المحلي فحسب؛ فقد قام عالم النفس الأمريكي روبيرت شيالديني بتأليف كتاب (ما قبل الإقناع Pre-Suation) يحاول فيه تأطير بعض المفاهيم والنظريات والممارسات العملية التي يمكن أن تساعد مختلف المؤسسات في تهيئة جمهورها من أجل تلقي رسائل معينة بمستويات أعلى من القناعة. لكن ما يثير الاهتمام التسلسل الذي لجأ إليه روبيرت في نشر كتبه المرتبطة بالإقناع؛ حيث إنه وقبل قيامه بنشر كتاب (ما قبل الإقناع) في العام 2016 كان قد نشر في العام 1984 كتابه الشهير (التأثير: سيكولوجية الإقناع - Influence: The Psychology of Persuation) الذي لا يزال يشغل أمكنة بارزة في أرفف المهتمين بالتواصل حتى يومنا هذا بسبب ارتباط محتواه بالكثير من الظواهر والممارسات التي نعيشها اليوم. ويتضمن كتاب (ما قبل الإقناع) تبسيطا لمفاهيم مرتبطة بالجوانب النفسية توضح الظروف والممكنات التي من شأنها أن تسهل عملية إقناع المتلقي بفكرة ما، وكذلك الممارسات المبنية على تلك الظروف والممكنات بما يتيح للمؤسسة الاستفادة منها في عملية الإقناع.
وينص الكتاب على مبدأ مباشر وهو أن الجمهور يحدد مدى قابليته للاقتناع بناء على أول شيء يسمعه حول الموضوع المحدد، مستعينا روبيرت في شرح هذا المبدأ بمثاله الشهير الذي يجسد مفهوم «إرساء السعر Price Anchoring» الذي يقوم فيه صاحب شركة استشارات ببدء عرضه التقديمي لأحد زبائنه قائلا: «إنني لا أعتزم إعطاءك فاتورة بمليون دولار نظير أعمال الاستشارات التي سأقدمها لك في هذا العرض». ثم ينهي عرضه بتقديم سعره الحقيقي البالغ أقل من مائة ألف دولار، دون أن يواجه أي مقاومة تجاه سعره أو أن يضطر إلى دخول جولات من المفاوضات المالية مع الزبون. كما يستعرض الكتاب أهمية التمهيد للمتلقي من أجل تعزيز فرص الاستجابة، مستحضرا تجربة علمية قام بها اثنان من علماء التواصل تتلخص في القيام بتوزيع استبانات على عينة من الجمهور لم تحظ بأكثر من ثلث العينة كمعدل استجابة، ثم إعادة توزيع ذات الاستبانات مسبوقة بعبارة افتتاحية: «هل أنت شخص متساعد؟» ليقفز معدل الاستجابة إلى سبعة وسبعين بالمائة من إجمالي العينة.
ويتوسع روبيرت في توضيح ممارسة لفت انتباه الجمهور إلى موضوع أو قضية معينة من أجل تسهيل اقتناعهم برسائل مرتبطة بها، مستشهدا بالدور الذي تقوم به مختلف وسائل الإعلام في توجيه اهتمام الجمهور عبر انتقائها للقضايا التي تطرحها بحيث تكون تلك القضايا ضمن أولوية اهتمام الجمهور، وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح في الرسائل السياسية والحملات الانتخابية في مختلف دول العالم. فعلى سبيل المثال قامت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش أثناء حرب اجتياح العراق في العام 2003 بإطلاق برنامج بمسمى «المراسل الميداني Embedded Reporter» يتم عبره تسهيل وجود مراسلين صحفيين وإعلاميين على ميدان المعركة من أجل القيام بالتغطية الإعلامية. وقد أسهم ذلك البرنامج في بث العديد من القصص الإنسانية عن الجنود الأمريكان في الميدان ما أدى إلى زيادة مستوى تأييد المجتمع الأمريكي للحرب على العراق بسبب تأثير التغطيات الإعلامية التي تخدم ذلك.
محليا فإن ما يمكن أن يسهم في تعزيز ممارسات التهيئة من أجل الإقناع التجارب المتراكمة التي تتيح دروسا مستفادة من أجل تطوير خطط تهيئة فاعلة، ولعل ما يمكن استحضاره في هذا السياق تجربة الزملاء في مركز التواصل الحكومي في إرساء مجموعة من القواعد ضمن دليل استرشادي متكامل متاح عبر الموقع الإلكتروني لوزارة الإعلام من شأنه تسهيل تخطيط أنشطة التهيئة للسياسات والقرارات بالنسبة للمؤسسات التي بدورها ينبغي عليها النظر إلى هذا الموضوع كممكِّن لأعمالها، لا عبئا إضافيا عليها، إضافة إلى أهمية تخصيص المسؤولين في الوحدات جزءا من اهتمامهم بهذا الجانب من أجل ضمان مستويات أفضل من القبول بين الأطراف ذات العلاقة ويقلل من التبعات التي قد تضطر المؤسسات إلى تحملها نتيجة تفويت الفرص التي تتيحها ممارسات التهيئة للقرارات والسياسات.
بدر الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
