مؤشرات إيجابية لتعافي الاقتصاد العماني

22 أغسطس 2022
22 أغسطس 2022

إذا كان الاقتصاد هو الأرضية الصلبة التي تقف عليها السياسة وتستند إليها في تحركاتها، داخليا وخارجيا أيضا، فإن كل تطور إيجابي في الاقتصاد الوطني يشكل دعما ومساندة لسياسة الدولة وتحركاتها على مختلف المستويات. والمؤكد أن التطورات الإيجابية على الصعيد الاقتصادي لا تتم لمجرد الرغبة في تحقيقها، ولا تحدث نتيجة للتضخيم ولا للبهرجة الإعلامية في وقت ما، ولكنها تحدث نتيجة جهود وبرامج وخطوات مدروسة، متتابعة ومتسقة مع أوضاع الاقتصاد والأهداف المراد تحقيقها في وقت معين.

ومن أجل تجنب المبالغات والقراءات المغلوطة أو المتحيزة للأرقام وللنتائج الاقتصادية، وحرصا على الشفافية والمصداقية على نطاق واسع، تقوم المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية المتخصصة، وفي مقدمتها وكالات التقييم الدولية مثل " فيتش " و" موديز " و" ستاندرد اند بورز " بدور حيوي وبالغ الأهمية ليس فقط في مجال دراسة وتقييم أوضاع وحالات ومشكلات اقتصادات الدول المختلفة وفق أسس وقواعد ومناهج تقييم علمية معروفة، على الأقل في خطوطها العامة، ولكن أيضا على صعيد التنبؤ بمستقبل هذه الاقتصادات أو بعض قطاعاتها على المديين القريب والمتوسط.

وبالنظر إلى أن تلك المؤسسات الدولية تتسم بالاستقلالية وتحرص عليها بدرجة كبيرة، فإن تقييماتها بالنسبة للاقتصادات المختلفة تتسم بالكثير من الأهمية والتأثير، سواء بالنسبة للدول والاقتصادات المعنية، أو بالنسبة للمستثمرين ولأسواق ومؤسسات التمويل الدولية، بحكم أن هذه التقييمات تلقي الكثير من الضوء على واقع ومستقبل هذه الاقتصادات، ثم تؤثر بدرجة ملموسة على مواقف وتعاملات وثقة المستثمرين والمقرضين الأجانب ومؤسسات التمويل الدولية وحتى الموردين والمصدرين المتعاملين معها. ومن هنا يتلقى الجميع ما يصدر من تقييمات هذه المؤسسات لوضعها في الاعتبار وأحيانا البناء عليها بالنسبة لقرارات التعامل المالي والاقتصادي مع دولة أو دول محددة في وقت معين، كما أن الدول المعنية تهتم هي الأخرى بهذه التقييمات التي تصدر في حقها، ليس فقط لتتبين رشادة وصحة ما تتبعه من برامج وسياسات، ولكن أيضا لتعدل أو تغير ما ينبغي تعديله لتحقيق نتائج اقتصادية ومالية أفضل في المستقبل.

وفي ضوء ذلك، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب بشأن ما صدر من تقييمات، من جانب الوكالات الثلاث المشار إليها، لحالة ومستقبل الاقتصاد العماني، ومن أهمها ما يلي:

أولا: إن السنوات الممتدة من عام 2015 حتى عام 2020 شهدت في الواقع زيادة كبيرة وغير مسبوقة في حجم الدين العام الخارجي، وذلك لأسباب واعتبارات عديدة ومتنوعة كان من أبرزها الانخفاض الحاد في أسعار النفط منذ منتصف عام 2014 تقريبا واستمرار ذلك الانخفاض لبضع سنوات متتالية، ونظرا للتأثير السلبي لهذه المسألة، على أكثر من صعيد، فقد وضع جلالة السلطان هيثم بن طارق - أعزه الله - مسألة التخلص من أكبر حجم من الديون الخارجية والعمل على تحقيق الاستدامة المالية وخفض العجز في الميزانية العامة للدولة في مقدمة أولويات العمل الوطني منذ تولي جلالته مقاليد الحكم في يناير عام 2020، مع الحرص بالطبع على الحفاظ على قدرة الاقتصاد العماني على النمو والوفاء بمتطلبات الحفاظ على مستويات المعيشة للمواطنين العمانيين وتحسينها وفق الإمكانات المتاحة، ثم جاءت عمليات إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وإرساء سياسة تقشف لخفض الإنفاق الحكومي، ووضع أنظمة جديدة للمعاش المبكر، وللتشغيل واستيعاب أكبر عدد ممكن من الباحثين عن عمل، وتشجيع التنويع الاقتصادي، وتطبيق رؤية عمان 2040 وأولوياتها المعروفة، والأهم تنفيذ ذلك بحسم وفي مختلف المجالات وعلى كافة المستويات، ليضع الاقتصاد العماني على أرضية تمكنه من الانطلاق عندما تتهيأ وتتوفر له الإمكانات الوطنية المتاحة، وقد توفر ذلك في الواقع من خلال برامج التركيز على استخدام الموارد والإمكانات المتوفرة في المحافظات من ناحية، والدفع بالشباب المدرب والقادر على تحمل أعباء العمل إلى مواقع المسؤولية بما فيها المناصب الوزارية من ناحية ثانية، ثم جاء التحسن في أسعار النفط واستمرار ذلك، حتى الآن على الأقل، ليدعم الجهود الحكومية وليساعد في تحقيق الأولويات والأهداف المراد تحقيقها في خطة التعافي المالي متوسطة المدى، ووفق خطة التنمية الخمسية العاشرة ( 2021 - 2025 ) ورؤية عمان 2040، والمؤكد أن الإدراك الوطني الكبير لأهمية وضرورة هذه الإجراءات قد وفر الإطار الداعم لإنجاحها خلال مدة وجيزة، حيث بدأت آثارها الإيجابية في الظهور منذ أواخر العام الماضي. وذلك بشهادات ووفق تقييمات وكالات التقييم الدولية.

ففي يوليو من العام الماضي عدلت وكالة " موديز " للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية للاقتصاد العماني " من سلبية إلى مستقرة " وكان ذلك مؤشرا واضحا على حجم وإيجابية الجهود التي بذلت، وفي أبريل هذا العام رفعت وكالة " ستاندرد اند بورز " تقييمها للاقتصاد العماني إلى " بي بي مع نظرة مستقبلية مستقرة " ، وفي منتصف هذا الشهر رفعت وكالة " فيتش " تقييمها للأداء الاقتصادي للسلطنة إلى " بي بي مع نظرة مستقبلية مستقرة " وما يزيد من قيمة وأهمية هذا التصنيف أنه يؤكد ما ذهبت إليه وكالة " ستاندرد اند بورز " قبل نحو أربعة عشر شهرا، ويعني ذلك ببساطة استقرار الأداء لمختلف قطاعات الاقتصاد العماني والتغلب على كثير من تحديات الأعوام الأخيرة. وهو ما يعد إنجازا طيبا للقيادة وللحكومة وللشعب العماني بمختلف فئاته وقطاعاته.

ثانيا: إن هذا التقييم الإيجابي، وإجماع مؤسسات التقييم الدولية الثلاث على تطور الأداء الاقتصادي العماني وعلى النظرة "المستقبلية المستقرة له" من شأنها ليس فقط تعزيز الثقة في السياسات والبرامج التي يتم اتباعها في هذه المرحلة من النهضة المتجددة، ولكنه يعزز بالتأكيد النظرة الإيجابية للاقتصاد العماني من جانب المؤسسات الإقليمية والدولية، ومن جانب المستثمرين الأجانب، ومختلف الأطراف التي تتعامل تجاريا مع السلطنة، ومن شأن ذلك أن يسهم في تهيئة سبل النجاح لجهود السلطنة سواء على صعيد جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، أو على صعيد إنجاح خطط السلطنة للتنويع الاقتصادي والعمل على تحويل السلطنة إلى مركز لوجستي إقليمي ودولي متطور لتوسيع التجارة بين دول منطقة الخليج وبين مناطق العالم الأخرى ودفع الاقتصاد العماني ليكون أكثر قدرة على النمو الذاتي، ومواكبة التطور التقني والتفاعل الواسع والمفيد مع مختلف التطورات الاقتصادية العالمية والإقليمية، خاصة أنه تتوفر بالفعل للاقتصاد وللسوق العماني الكثير من مقومات النجاح في هذه المجالات وبشهادة العديد من المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية بما فيها صندوق النقد الدولي ذاته. وفي هذا الإطار فإن مما له دلالة كبيرة على أن الميزانية العامة للدولة قد حققت فائضا ماليا في النصف الأول من عام 2022 بلغ نحو 784 مليون ريال عماني، أي نحو ملياري دولار أمريكي، ومن شأن ذلك أن يقلل من حجم العجز المتوقع في ميزانية هذا العام، فضلا عن تمكين الدولة من توجيه بعض الموارد لتعزيز برامج التنمية والرعاية الاجتماعية وخدمات الصحة والتعليم والإسكان وتشغيل الباحثين عن عمل وبما يتجاوب مع هدف تحسين مستويات المعيشة للمواطنين العمانيين كهدف تضعه القيادة العمانية في مقدمة اهتماماتها.

ثالثا: إن ما يعزز الثقة والأمل في السير نحو مزيد من التحسن الاقتصادي وامتداد نتائج ذلك لتصل إلى الحياة اليومية أن جوانب إيجابية عدة تظهر وتتزايد بشكل مطرد، ليس فقط فيما يتصل بانخفاض الدين الخارجي واستعداد السلطنة للوفاء بالتزاماتها قبل المواعيد المحددة لذلك، ولكن أيضا فيما يتصل من توقعات إيجابية بشأن تحقيق معدلات نمو اقتصادي وارتفاع للناتج المحلي الإجمالي بنحو 4.4% هذا العام وبنحو 2.8% العام القادم وتحقيق فائض مالي بنسبة 5.5% إلى الناتج المحلي الإجمالي هذا العام وبنسبة 3.4% العام القادم، وهي أرقام وتقييمات مؤسسات التقييم الدولية. وعلى صعيد التحرك الحكومي، فإنه إلى جانب استمرار مساعي وجهود تحسين بيئة الاستثمار والأعمال والتوسع في الشراكة مع القطاع الخاص من خلال البرنامج الوطني للاستثمار وتنمية الصادرات " نزدهر " الذي يستهدف تعزيز القطاعات غير النفطية ، فإن انطلاق البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي " تنويع " في الأيام الأخيرة من أجل الإسراع في تحقيق مختلف جوانب التنويع الاقتصادي المستهدفة في خطة التنمية الخمسية العاشرة ورؤية عمان 2040 يعطي في الواقع دفعة كبيرة في هذا المجال خاصة إذا تم تحقيق أكبر قدر من التنسيق بين البرنامجين وغيرهما من البرامج والمبادرات الأخرى التي تلتقي جميعها عند هدف تحقيق أفضل أداء ممكن في مختلف القطاعات. ومع إقامة محطة اللوجستيات في صحار لخدمة حركة الصادرات والواردات بشكل أفضل، وتشغيل محطة تخزين النفط في رأس مركز بولاية الدقم بشكل تجريبي قبل نهاية العام وتنفيذ العديد من المشروعات في مجال الصحة والتعليم والإسكان وتخصيص نحو 40% من الإنفاق الجاري في ميزانية هذا العام للخدمات الأساسية، بما فيها الضمان والرعاية الاجتماعية وتنشيط مشاركة القطاع الخاص بعد صدور النظام الجديد لغرفة تجارة وصناعة عمان، فإن آفاقا طيبة ومبشرة تنتظر الاقتصاد والمجتمع العماني في الفترة القادمة وذلك بتعاون وتضافر جهود الحكومة والقطاع الخاص والمواطنين في مختلف المجالات وعلى كافة المستويات.