ليبيا... الدخول الصعب إلى طريق الحل !!
في الوقت الذي تتواصل فيه الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الخرطوم وغيرها من مواقع الاشتباكات بين الجانبين، حاملة معها مزيدا من القلق والخوف بالنسبة للسودان ومستقبله، فإن التطورات التي تشهدها ليبيا في الآونة الأخيرة تدعو إلى الترقب والأمل في أن تتحرك الأوضاع في ليبيا لتدخل إلى طريق الحل السلمي عبر أكبر مساحة ممكنة من التوافق بين القوى السياسية الليبية والإقليمية والدولية بالضرورة، ولعل الأشهر القادمة تفسح المجال ليس فقط لمواصلة الخطوات التي تم اتخاذها ولكن أيضا لتقوية، وتوسيع مساحات التوافق والاتفاق تمهيدًا لإنجاز استحقاق إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة في ديسمبر عام 2021.
ومع الوضع في الاعتبار التفاوت في وجهات النظر بين المعنيين بالتطورات في ليبيا، وما يمكن أن تؤدي إليه، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:
أولا، إنه بعد أشهر من الخلافات العلنية بين مجلس النواب الليبي برئاسة عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري وعقب جهود مكثفة ولقاءات بينهما كان آخرها في يناير الماضي في القاهرة تم التوصل – برعاية مصرية وإقليمية - إلى خارطة طريق للتمهيد لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية وحصر نقاط الخلاف التي عطلت الجهود السياسية في عدد محدود من العناصر وبالفعل تم تشكيل لجنة مشتركة من المجلسين هي لجنة (6 + 6) للبحث في نقاط الخلاف ومحاولة التوافق عليها بشكل واضح كأساس دستوري لإجراء الانتخابات وفق التعديل الدستوري الـ 13.
ومن حسن الحظ أنه تم الاتفاق بالإجماع بين أعضاء لجنة (6 + 6) في اجتماعها الذي عقد في بوزنيقة بالمغرب (وبرعاية مغربية وإقليمية أيضا) حول نقاط الخلاف وهو ما تم رفعه إلى مجلس النواب الليبي للمصادقة عليه وإصدار القوانين الدستورية المنظمة للانتخابات، ومن أبرزها أن تكون الانتخابات بمشاركة مختلف القوى السياسية والاجتماعية الليبية ودون إقصاء أو إبعاد، وقد رحبت المغرب والمملكة العربية السعودية بهذا الاتفاق، كما رحب به أيضا المجلس الرئاسي الليبي برئاسة محمد المنفي في بيان رسمي، وهو ما يعني أن المؤسسات الثلاث الرئيسية (مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة والمجلس الرئاسي) متوافقة على ما توصلت إليه لجنة (6 + 6) والكرة باتت في ملعب مجلس النواب الليبي ما لم تطرأ عراقيل جديدة. ووفقا لما تم الاتفاق عليه في بوزنيقة، فإن الانتخابات ستجري بعد 240 يوما (نحو ثمانية أشهر) من إصدار مجلس النواب للقرارات المنظمة للانتخابات التي تمثل أساسا دستوريا لها. والأشهر الثمانية هي فترة انتقالية يتم خلالها التحضير اللوجستي والتنظيمي للانتخابات من خلال المفوضية العليا للانتخابات التي أعلن رئيسها عماد السايح من قبل أن اللجنة تحتاج ما بين ستة إلى ثمانية أشهر لاستكمال الإعداد لإجراء الانتخابات بما في ذلك تحديث سجل الناخبين. وبذلك فإن الطريق يصبح مفتوحا على المستوى التشريعي عندما يصدر مجلس النواب القوانين التي تم التوافق عليها.
ثانيا، على صعيد آخر جرت عدة تحركات إيجابية أسهمت -حتى الآن على الأقل- في تهدئة الأوضاع في ليبيا وفتح آفاق سياسية من خلال تعيين عبدالله باتيلي -السنغالي- مبعوثا خاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا. وقد حرص باتيلي على إجراء اتصالات مع مختلف القوى السياسية الليبية ومع كل الدول المجاورة لليبيا، والتأكيد على أهمية وضرورة تحقيق الاستقرار السياسي لليبيا بإجراء الانتخابات، وأطلق تصريحات لا تسد الطريق ولا تثير خلافات مع أي من القوى الليبية. وبغض النظر عن اتهام البعض للمبعوث الدولي بالضعف وتكرار تجارب ومسار من سبقوه في منصبه ولم ينجحوا، إلا أنه يمكن القول إنه لا يزال يحظى -حتى الآن على الأقل- بتأييد القوى الليبية الرئيسية له ولجهوده.
وفي ظل انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا فقد كثفت واشنطن من تحركاتها السياسية في ليبيا، ليس فقط مع حكومة الدبيبة المعترف بها دوليا ولكن أيضا حيال الفريق خليفة حفتر، فقد زارت بربر اليف مساعدة وزير الخارجية الأمريكية بنغازي في 19 مارس الماضي والتقت خليفة حفتر في مقر الجيش الوطني الليبي وهو لقاء له دلالته السياسية بالتأكيد وفي اليوم التالي التقت المبعوثة الأمريكية مع وزيرة الخارجية الليبية في حكومة الدبيبة نجلاء المنقوش كما التقت عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي وأكدت خلال لقاءاتها دعم جهود المبعوث الدولي ودعم جهود إجراء الانتخابات الليبية. ومن جانب آخر فإنه في حين تعددت الاتصالات السياسية خاصة من جانب إيطاليا وفرنسا وأطراف إقليمية ودولية أخرى فقد قرر مجلس النواب الليبي سحب الثقة من رئيس الحكومة الانتقالية فتحي باشاغا التي عينها مجلس النواب في أبريل من العام الماضي، وذلك بحجة فشل رئيس الحكومة في أداء مهمته بالاستعداد للانتخابات وعدم دخول العاصمة طرابلس للسيطرة على مؤسسات الدولة الليبية من حكومة الدبيبة منتهية الولاية منذ ديسمبر عام 2021.
وبغض النظر عما تردد حول أسباب إقالة فتحي باشاغا من منصبه وتعيين أسامة حماد بدلا منه، فإنه يمكن القول إن إقالة باشاغا كان جزءا من بناء القدر الأكبر من التوافق الليبي الداخلي الذي يتبلور الآن خطوة خطوة ولعله يكتمل وينجح.
ثالثا، أنه في الوقت الذي تفاءل كثيرون بمؤشرات مختلفة في الفترة الأخيرة، سبقت وصاحبت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في مايو الماضي حول رغبة تركيا في تقوية العلاقات مع مصر وحتى الحديث عن لقاء قمة مصري تركي، وهو ما يؤثر كثيرا بالضرورة على التطورات في ليبيا، وذلك بحكم المواقف المتعارضة والمتنافسة بين تركيا ومصر في ليبيا بحكم عوامل عديدة ومعروفة، فإن هذا التفاؤل النسبي أصبح موضع تساءل من جانب كثيرين، ليس فقط في ظل تعيين وزير خارجية تركي جديد في الحكومة التي شكلها الرئيس أردوغان بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة برغم أنه هو في النهاية الذي يشكل السياسة التركية، ولكن أيضا لأن الرئيس التركي دعا رئيس الحكومة الليبية المعترف بها دوليا عبد الحميد الدبيبة إلى مشاهدة مباراة نهائي أبطال أوروبا في كرة القدم بين فريقي مانشيستر سيتي وانتر ميلان التي أقيمت في إسطنبول السبت الماضي، وعلى هامش المباراة التقى أردوغان والدبيبة والشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات الذي شهد المباراة أيضا، وبالطبع تمت مناقشة التطورات في ليبيا والآفاق السياسية لها وموقف حكومة الدبيبة والانتخابات القادمة.
جدير بالذكر أن الدبيبة زار إيطاليا وهو في طريقه إلى تركيا وبينما يحرص على تعزيز علاقاته الإقليمية فإنه يعمل بشكل واضح ومتواصل على تعزيز قوته على المستوى الداخلي، سواء من خلال قيامه بشن عمليات عسكرية في الزاوية غرب طرابلس بحجة ضرب أوكار الهجرة غير الشرعية مؤخرا، أو من خلال الإعلان عن تشكيل قوة عسكرية أخرى تابعة له هي «الجهاز الوطني للقوى المساندة» والذي يضم ميليشيا 17 فبراير وغيرها. وبغض النظر عن الجدل حول هذه الخطوة وأهدافها الحقيقية، خاصة وأن البعض شبهها بقوات الدعم السريع في السودان، فإن الدبيبة الذي رفض تسليم السلطة إلى الحكومة الانتقالية برئاسة فتحي باشاغا ومنعه من دخول طرابلس معتمدا على تأييد الميليشيات المؤيدة لها، يبدو انه يكافئها الآن. والأخطر من ذلك أن لديه أولوية سياسية تسبق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية فقد أعلن بوضوح خلال زيارته لإيطاليا قبل توجهه إلى إسطنبول لمشاهدة المباراة «إنه يجب أن نبدأ بالدستور وبعدها الانتخابات، يجب أن نبدأ بتشكيل أساس دستوري وبعدها نفكر في إدارة الانتخابات» ويكشف ذلك بوضوح عن معارضة الدبيبة لجهود التحضير للانتخابات ويثير ذلك الشكوك حول إجرائها بالفعل برغم الجهود المشار إليها.
