لماذا نخاف على انهيار الطبقة الوسطى؟

23 يونيو 2021
23 يونيو 2021

ظهر مصطلح الطبقات في الغرب الرأسمالي بعد النهضة الصناعية، ثم جاء ما يسمى بعصر التنوير والحداثة والحريات وإقصاء الكنيسة وتدخلاتها في الشأن العام، وهذا قبل ظهور التقسيم السياسي بين الغرب الرأسمالي، وبين المعسكر الشيوعي الذي أتى بعد الحرب العالمية الثانية، وعلى أثرها بدأ الصراع السياسي بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، لكن مسألة ظهور الطبقات وتقسيماتها، ترجع إلى بدايات ظهور الرأسمالية المتوحشة في الغرب والتي جلبت للغرب الكثير من المشكلات السياسية والاجتماعية وصراعاتها الفكرية والسياسية، والتي أسهمت في ظهور عصر الطبقات، والتي برزت بسبب الاحتكار والظلم الاقتصادي والاجتماعي للنظام الرأسمالي، والذي أدى إلى بروز فلسفات ومذاهب سياسية واجتماعية تنادي بحقوق العمال من المستغلين، وتنتصر للطبقات الفقيرة التي تم استغلالها من قبل الرأسماليين الإقطاعيين، وظهور الأفكار الاشتراكية المتعددة في رؤيتها الفكرية، ومنها الفلسفة الماركسية، التي وجدت لها أنصارا كثيرين في الغرب، والتي اعتبرت خطرًا على الرأسمالية والحرية الفردية التي أساس نظامها الاقتصادي، مقابل الفلسفة الاجتماعية التي تمثلها الاشتراكية، ولا سيما في ألمانيا، التي تعتبر مهد الفكر اليساري الاشتراكي، ثم ظهور نزعات اشتراكية في فرنسا وبريطانيا وبعض دول أوروبية، التي تبنت هذه الأفكار، مما أدى إلى تغيير الكثير من أسس النظام الرأسمالي والحد من وحشيته واستغلاله، وتراجعت عن الكثير من المظالم تجاه العمال والسخرة، وتم هذا بسبب بروز الأفكار الاشتراكية الوسطية منها والجذرية في التغيير النظام الرأسمالي.

وفي ظل الحريات العامة التي تحققت في الغرب الليبرالي بعد ذلك، بعد التوافق على العقد الاجتماعي الذي صاغه العديد من الفلاسفة الغربيين، وأبرزهم جان جاك روسو، وقيام الديمقراطية الليبرالية (التقليدية)، والتداول السلمي للسلطة من خلال الانتخاب والاقتراع الخ، ومنها التعددية الحزبية وقيام أحزاب اشتراكية وليبرالية ومحافظة، تطالب بالحقوق والحريات، مما أدى تدريجيًا إلى التخفيف من غلواء الرأسمالية المستغلة، فانتشرت الأفكار التحررية في الغرب وانحسر الاستغلال، بفضل النقد الذي وجه للرأسمالية وسلبياتها، خاصة بعد قيام الثورات في الغرب الضاغطة ضد التوحش الرأسمالي، وأصبحت الأفكار الجديدة، أكثر قبولًا عند التيارات الفكرية من دول العالم، ومن خلال ذلك برزت الطبقة الوسطى التي انبثقت من الأفكار الجديدة بعد تراجع الكثير من التطبيقات الرأسمالية، وتقع الطبقة الوسطى بين الطبقة الغنية ذات الدخول المرتفعة والاحتكارية وذات النفوذ الاقتصادي والمالي، وبين الطبقة الفقيرة ذات الدخول المتدنية والضعيفة، لكن الطبقة الوسطى تمثل الركيزة المهمة من غيرها من الطبقات الأخرى، والتي تمثل التوازن في المجتمعات المعاصرة من حيث أثرها وأهميتها في المجتمع الحديث بحكم قدرتها في الحراك الاقتصادي، كما أن الطبقة الوسطى تعتبر قاعدة مهمة للتمنية والتقدم، بحكم أن أغلب الشرائح المتعلمة تنتمي لهذه الطبقة من صناعيين ومهنيين ومثقفين ومعلمين وغيرهم، بينما الطبقة الدنيا هي الأقل تعليمًا وأقل دخلا لكونها في وظائف دخولها صغيرة ومتدنية في الغالب الأعم.

ولذلك تعتبر الطبقة الوسطى العامل المهم والمحرك الأساسي لحركة السوق ونشاطه الاستهلاكي واستقراره، خاصة الحياة المعيشية في المجتمع المعاصر وقوة تأثيرها، كما تمثل هذه الطبقة الأمان المجتمعي، عند التحولات والتغيرات التي تحدث، سواء بسبب الظروف السياسية أو الاقتصادية، ولذلك من أهم المخاطر التي تواجه الطبقة الوسطى من عدة عقود، التوقع بانحسارها أو انهيارها، وتمثل إشكالية للاستقرار السياسي عند التلاشي والضعف بصورة كبيرة، ومن هنا بدأ الكثير من المحللين الاقتصاديين، يحذرون من انهيار الطبقة الوسطى في المجتمعات العربية على وجه الأخص، خاصة مع الأزمات الاقتصادية، ومنها انخفاض أسعار النفط، وكذلك مع ظهور نزعة رأسمالية جديدة جشعة ومستغلة، أو ما تسمى بـ(النيوليبرالية) - الليبرالية الجديدة - إذ تحاول بقوة محاصرة الطبقة الوسطى، من خلال تدهور الأجور الدعوة من البنك الدولي إلى إلغاء الدعم الحكومي، وفي بعض الدول بأساليب وطرق لعدم بروزها وانطلاقتها دون معوقات، لا سيما قضية الاحتكار، ومن هذه الأسس تأثرت الطبقة الوسطى من زيادة الأسعار، وتغير الظروف المعيشية بسب الأزمات الاقتصادية والحروب والنزاعات الإقليمية والدولية.

ويذكر العالم الاقتصادي العربي الدكتور رمزي زكي في بحثه (وداعًا للطبقة الوسطى)، أن من المشكلات التي تحدث للطبقة الوسطى، هي الآثار الاجتماعية بسبب تخفيض الوظائف في الحكومة بما له أثار على أوضاع هذه الطبقة، ومنها بروز البطالة على الكثير من المخرجات التعليمية، كقضية تبرز بقوة في العديد من المجتمعات المعاصرة، فيقول الدكتور رمزي: إن التدهور الذي يطرأ على مستوى معيشة هذه الشريحة يبدو جليًا - بوجه خاص - في حالة الأفراد الذين بلغوا سن التقاعد، وأصبحوا على «معاشات» نقدية ثابتة، ففي الوقت الذي تنخفض فيه استمرار القيمة الحقيقية لهذه المعاشات تنعدم تقريبًا الفرصة المتاحة أمامهم لزيادة دخولهم من خلال مزاولة أعمال إضافية، بحكم ارتفاع أعمارهم وظروفهم الصحية وعدم قدرتهم على العمل.

ولا شك أن الليبرالية الجديدة، التي تقترب فلسفيًا من الرأسمالية المتوحشة، والتي ترى أن حق «الملكية الفردية مقدمة على الحقوق الأخرى العامة»، ولذلك نادت بعودة الرأسمالية الكلاسيكية، ووفق الشعار المعروف (دعه يعمل.. دعه يمر)، وفق ميكانيكية السوق وحركته، دون تقييد، حتى ولو أضر بالمجموع! ولذلك نظرتا ليست إيجابية لاستقرار المجتمعات، حتى لو أدى إلى تهميش الطبقة الوسطى وإضعافها وتلاشيها، وتمثل قرارات أو نصائح البنك الدولي الكثير من السلبيات منها سواء هذا من أخطر المشكلات على التنمية نفسها التي تساهم في انحصار الطبقة الوسطى! وهذه لا شك ستسبب العديد من دول العالم، وقد حصلت الكثير من المشكلات في بعض الدول، عند انهيار أو تراجع هذه الطبقة، وعدم قدرتها في الحركة المتوازنة والمؤثرة في حركة السوق، واستقرار المجتمعات المعاصرة، ولذلك على الدول أن لا تكترث لما يجري للطبقة الوسطى من التهميش والتلاشي، ففي غيابها، ستحدث الكثير من التوترات والمشكلات الاجتماعية، وحتى على حركة التنمية والتوازن الاجتماعي للكثير من المجتمعات عند انهيار هذه الطبقة.