كنز الثقافة في التنمية

31 يوليو 2021
31 يوليو 2021

يكشف تقرير (عن الاقتصاد الإبداعي. تعزيز سبل التنمية المحلية) الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في فصل (تحليل لحافظة الشراكات مع نافذة الثقافة والتنمية المواضيعية لصندوق تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية)، أن الثقافة هي ركيزة تحقيق أهداف الألفية، وأن "البرامج التي تشكل حافظة صندوق تنفيذ الأهداف الإنمائية للألفية ((تتشاطر)) هدف الاستفادة من الإبداع والثقافة من أجل التنمية"؛ مما يعني أن الثقافة تمثل عامل تحريك لأهداف التنمية، فهي المسؤولة عن إنتاج الأفكار الإبداعية وتمكينها بما يفسح المجال لإيجاد إمكانات وموارد وأنشطة اجتماعية واقتصادية مستدامة.

إن الثقافة تقدم إمكاناتها المتعددة والمتنوعة باعتبارها مكنزا تنمويا قادرا على فتح آفاق الاستثمار والإنتاج، فهي قطاع إنتاجي قيِّم يتشكل وفق الكثير من التحولات الاجتماعية والاقتصادية، ليكون رأس مال وعامل محرِّك لتوفير فرص العمل من ناحية، وتحقيق العائدات الاقتصادية من ناحية أخرى. غير أن ذلك لن يكون متاحا إلا إذا استطعنا التعامل مع رأس المال هذا باعتباره استثمار في الفكر الإنساني؛ إذ لا يمكن العمل على اقتصادات الثقافة سوى بتنمية الإنسان (الفرد في المجتمع عموما، والمبدع خصوصا).

ولهذا فإن الثقافة في علاقتها بالتنمية تتأسس بواسطة أفراد المجتمع، وكلما استطاعت المجتمعات تنمية الأفراد كلما استطاعت تنمية القطاعات التنموية الأخرى، لذا فالثقافة والتنوع الثقافي المستدام، يتحققان فقط إذا نشأ في بيئة تمكينية تحافظ على القيم والمساواة والاستدامة، وبالتالي تحقيق التنمية الاجتماعية الشاملة، التي تؤسس للتنمية الاقتصادية والبيئية، وتركز على قدرة الأفراد على إنتاج ما يُسهم في تنفيذ أهداف التنمية عن طريق اعتزازه بنفسه و(تحسين نوعية حياته، وتعزيز الحوار والتماسك المجتمعي).

ولكي تستطيع المجتمعات تحقيق الأهداف التنموية محليا، عليها إدماج القطاعات الإنمائية تخطيطا وتنفيذا بُغية الوصول الآمن لإنتاج استدامة لهذه القطاعات، ولهذا فإن سلطنة عُمان حرصت في رؤية 2040 أن تكون هذه القطاعات الإنمائية بارزة من خلال مجموعة من الأهداف، ولعل العديد من البرامج التي نشهدها في الآونة الأخيرة تنصب لخدمة تلك الأهداف. وعلى الرغم من أهمية القطاع الثقافي وإمكاناته، وما تم إنجازه في المشروعات والبرامج المتعددة التي نفذتها المؤسسات الحكومية والمدنية والخاصة، إلا أنه لم تُسجل إلى الآن مؤشرات إنمائية يمكن التعويل عليها في هذا القطاع من الناحية الاقتصادية.

والحق إن مؤشرات قطاع الثقافة لا تعتمد على جهود العاملين في القطاع أو المبدعين وحدهم، ذلك لأن تلك الجهود رغم توفرها (برامج، وورش، وملتقيات، ومهرجانات، وغيرها) كلها غير كافية، إذا لم تتوفر البيئة المناسبة المجهزة، والبرامج القطاعية المشتركة مع المؤسسات المعنية بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. الأمر الذي سيسهم في دعم المبادرات الثقافية والبرامج الإنمائية عن طريق التخطيط المشترك والسياسات المعززة للاستثمار في الثقافة وفق تنمية مجتمعية قادرة على تمكين التنوع الثقافي وتنميته.

وعليه فإن إدماج الثقافة في الخطط الإنمائية في الدولة، لا يعني أن تكون موجود في هذه الخطط وحسب، بل أن تكون هدفا أصيلا من أهدافها؛ أي أن تكون القطاعات الإنمائية مدْرِكة لأهمية الثقافة باعتبارها قطاعا إنمائيا، خاصة في التعامل مع المشروعات الصغيرة والمتوسطة العاملة في مجالات الثقافة، والمشروعات المتعلقة بالنشر والطباعة وإدارة المؤسسات الثقافية والفرق المسرحية والغنائية وشركات الإنتاج الفنية وغير ذلك الكثير من المشروعات الثقافية التي يتم التعامل معها باعتبارها مشروعات تجارية. الأمر الذي يفاقم من إشكالات التعامل مع القيم الثقافية والهُوية الوطنية التي يمكن أن تنتجها مثل هذه المشروعات.

إن عمليات إدماج الثقافة في السياسات والخطط يتأسس وفق معطيات إنمائية تبدأ بالتنمية الاجتماعية حتى مرحلة الإنتاج الإبداعي والاستثمار الذي يعزز من ثقة الأفراد بأنفسهم، ويسهم في تحسين مستوى رفاههم، ولهذا فإن تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الآنف الذكر، ينتهي إلى ما يُطلق عليه (حقيقة) مؤداها " أن تعزيز المشاريع التجارية والمهارات الإدارية للفاعلين الثقافيين أمر بالغ الأهمية في إنجاز مشاريع إبداعية ناجحة ومستدامة، ومن ثم التشجيع على إنشاء فرص العمل وتوليد الدخل". ولهذا فإن التنمية الثقافية لأفراد المجتمع لا تقف عند تطوير مهاراتهم، وإنما تحتاج إلى دعم من القطاعات الأخرى حتى يتحقق الهدف المنشود؛ ذلك لأن التنمية المستدامة في تركيزها على الإنتاجية الإبداعية المتطورة، تعتمد على تنمية الأفراد اجتماعيا وثقافيا وبيئيا واقتصاديا. الأمر الذي يكشف لنا الشمولية التنموية في تحقيق الأهداف، وبالتالي قدرة هذه المجالات على بناء روابط وعلاقات من أجل الارتقاء بالتنمية البشرية، وتطوير المنظومة الإبداعية لدى الأفراد للوصول إلى تنمية مستدامة أساسها الإنسان وقيمه وقدرته على تجديد مهاراته، ليسهم إيجابيا في تطوير مجتمعه والارتقاء به.

ولكي يتم دراسة إدماج الثقافة في خطط التنمية الاقتصادية والموارد البشرية فإن علينا أن نبدأ بتحليل الواقع الثقافي الآن، من حيث الإمكانات والفرص والتحديات والتهديدات المستقبلية، وتقييم ذلك الواقع، ثم تحديد الأولويات التي ستسهم مباشرة في تلك التنمية، خاصة بالنظر إلى التحديات التي تواجه الثقافة في ظل جائحة كورونا (كوفيد19) والأزمة الاقتصادية الحالية، إضافة إلى تحديد العلاقات المتداخلة بين مجالات الثقافة والقطاعات التنموية الأخرى، ثم التعاون مع القطاعات الاقتصادية والمالية لدراسة الجدوى الاقتصادية من تشغيل المسارح ودور السينما، ودور النشر والصناعات الإبداعية الثقافية في مجالات التقنية والأعمال الحِرفية وغيرها، بحيث يتم إتاحة الفرص للأفراد المبدعين والمساهمين والمشاركين في الأعمال الإبداعية للعمل المجتمعي الحر القائم على الإنتاج وفتح فرص للوظائف الإبداعية الثقافية أو الوظائف المساندة لها.

إن ما قام به قطاع الثقافة من جهود واضحة خلال العقود السابقة، وما يقدمه اليوم من مبادرات وبرامج للتنمية الثقافية في عُمان، يحتاج إلى الدعم من القطاعات التنموية الأخرى، حتى يستطيع تحقيق أهدافه، فلا يمكن لهذا القطاع المساهمة في الدخل الوطني، أو حتى في دخل الفرد وشعوره بالرضا والرفاه، ما لم يكن ممكَّنا من النواحي الاجتماعية والبيئية، ومدعوما بالتخطيط الاقتصادي والمالي، فلو توفر ذلك لوجدنا أن برامج تنموية مشتركة قادرة على فتح آفاق العمل الإبداعي والابتكار في مجالات الثقافة العمانية بما تزخر به من تنوُّع.

وقد ذكر تقرير (اللجنة العالمية المعنية بالأمن الغذائي والتابعة لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة) أن صغار ملاك الأراضي الزراعية يمتلكون رصيدا ثقافيا يشمل (الفنون والموسيقى والرقص ورواية الحكايات وفنون المعمار)، وهو ما أُطلق عليه – بحسب التقرير – (فنون المناطق المحلية)، وقد أسهمت تلك الفنون في تنمية العديد من المناطق مثل (الريف الفرنسي، وسلسلة جبال الأنديز، وأحراش المنغروف في غرب أفريقيا، ومنطقة البلديوس في شمال البرتغال)، وذلك عن طريق تطوير هذه الفنون وربطها بأنظمة الحياة الاقتصادية (الزراعة، والرعي...)، مما أدى إلى زيادة دخل الأفراد، وبالتالي زيادة رفاههم. مما يدلنا على قدرة مجالات الثقافة وأنماطها على النمو الاقتصادي إذا ما تم استثماره وفق رؤية مدروسة.

وفي هذا فإن محافظات السلطنة تضطلع اليوم - بما مُنحت من إمكانات - بدور بارز في التنمية الثقافية لأبناء المحافظة، وتمكينهم من استثمار ما يتمتعون به من تنوع ثقافي وإمكانات إبداعية في تأسيس مشروعات ومبادرات محلية داعمة لدخل الأفراد؛ فالمحافظات زاخرة بكنوز معرفية ورؤوس أموال بشرية قادرة على المساهمة وفتح فرص للعمل الإبداعي في شتى مجالات الثقافة وخاصة التراث الثقافي.