كساد الإنسانية في سوق المال والسلطة

24 مارس 2024
24 مارس 2024

ليست صراعات الدول العظمى التي يعيشها العالم اليوم هي عجيبة الدهر ونادرة الدر، فقد عرفها التاريخ عبر عصوره المختلفة مهما تبدلت معطياتها وتحركت مراكزها محورا وأطرافا تبعا للتفوق العسكري والتقدم الاقتصادي، لكنها اليوم تتجلى في أبشع أشكالها وأسوأ مراحلها حيث تُقَيَّم الدول وتُحَددُ مساراتُها، ويُقولب إنسانها وتُسحق قيمها المعنوية مقابل أصغر قيمة مادية في سوق المصالح، فهل ذلك من الخير في شيء؟ وهل يملك الإنسان تغيير هذه المسارات الفولاذية وتعظيم قيمة الإنسان إزاء سطوة المادة والسلاح؟

مهما تكررت سيناريوهات التصادم أو التفاهم بين الدول العظمى محرك الأحداث والمنتفع منها وبها ـ حتى وإن كانت تلك المنافع على جثث شعوب لا تملك أن تحتج، وإن احتجَّت فإنه صوت مسلوب الصدى لن يتجاوز مداه الضيق صناعة لفرق، وعلى تهميش دول أضعف من أن تملك قرارها إما بسبب التبعية أو النفعية توأمي سراب حين يحتكم قرار المُسَيَّس لمنفعة مؤقتة قد تُودي بمنافع دائمة – فإن التاريخ يعيد نفسه لكن بِصوَرٍ أكثر قسوة، لا سيما بعد نشأة وعي جمعي إثر التراكم والتكرار من جهة، و رحابة الفضاء الرقمي الذي أشاع المشاركة المعرفية والأثر الاجتماعي من جهة أخرى، وهكذا تكون مواجهة الواعي لمصير بائس محتوم أصعب وأقسى من فناء الجاهل تحت وطأة المصير ذاته.

أي كفة سترجح في ميزان القوى العالمية إمَّا تطرقنا إلى أحداث متوازية وربما متراتبة تراتبا تتابعيا يصعب معه النسيان أو ادعاء السهو؟ كفة حياة ما يزيد عن اثنين وثلاثين ألف إنسان قتلوا في غزة منذ أكتوبر الماضي أم كفة خسائر حركة التجارة البحرية في البحر الأحمر؟ هنا قد يناقش البعض فكرة أن الحدثين لهما تأثيرهما على الشعوب؛ الأول بشكل مباشر في إزهاق الأرواح بالقتل والثاني بتأثير تعطيل حركة الملاحة البحرية، وتأثير ذلك على ارتفاع أسعار النفط عالميا، وما في ذلك من تداعيات على معيشة الناس حتى في المجتمعات البعيدة جغرافيا عن مسرح الحدثين، وفي ذلك من الصحة ما فيه دون أن يراد به مساواة الأول بالثاني، لكن عجيبة الدهر أن يمر الأول على بعض المحللين كأن القتلى مجرد أرقام لا تأثير لها لأن مرتكب القتل أقوى من أن يُحاسب، وأقْدَر من أن يُعاقب، أما الثاني فتعظيمه واجب وتقييده ضرورة قصوى لأن مصدره أضعف (في منظور القوى العالمية) من أن يُحدث ضررا بالمصالح العالمية والعلاقات الاقتصادية الدولية متناسين أن «البعوضة تُدمي مُقلةَ الأسد»!

اقتحام مهاجمين مسلحين مجمعًا شهيرًا للحفلات الموسيقية على مشارف العاصمة الروسية، أسفر عنه مقتل أكثر من 130 شخصًا وإصابة 100آخرين، ثم اعتقال ما يقرب من عشرة أشخاص على خلفية المذبحة، حدث عالمي له صداه خصوصا مع حساب التوقيت بُعيد انتخابات الرئاسة الروسية وفوز بوتين مع إعلان هيئة الانتخابات الروسية الفوز الكبير المتوقع لزعيم الكرملين في الانتخابات التي استمرت ثلاثة أيام مع تشكيك الخصوم وحسرة الأعداء، وضمن ذات السياق في المقابلة غير الجائزة لكنها واقعة بين الإنسان حياته وأحلامه من جهة وآلة المال والسلطة من جهة أخرى يأتي تصريح حاكم منطقة موسكو، أندريه فوروبيوف، السبت، إن ضحايا الهجوم الإرهابي سيحصلون على تعويضات مالية من حكومات المنطقة والمدن، وسيحصل أقارب كل من يموت على ثلاثة ملايين روبل (32,500 دولار)، في حين سيحصل المصابون والموجودون في المستشفى على مليون روبل (10,840 دولارًا)! مضيفا «الأطفال المسجلون في منطقة موسكو الذين توفي والدهم أو والدتهم في المأساة سيحصلون أيضًا على مدفوعات شهرية.. بالإضافة إلى ذلك، سنقوم بتعويض الجميع عن تكاليف الدفن وحل جميع المسائل القانونية» فمن سيعوض فقد الأرواح، ودفء العائلة ونزيف دولاب الذاكرة والحنين؟!

ثم لماذا ربطت هذه المقالة بين حادث هجوم موسكو وفوز الرئيس الروسي مجددا بدورة مدتها 6 سنوات؟! ألم نقع كذلك بهذا الربط فيما خشينا من تسليع الإنسان وتعظيم المال والسلطة؟! ربما عن غير قصد؛ فما نروم هنا غير القول بعدم استغراب ضلوع أيدي القوى المنافسة التي ترى في روسيا عموما وفي بوتين خاصة خصما لا بد من تحجيمه، ولا توجد طريقة حالية لإرباكه أفضل من هذا الهجوم المباغت، الذي ذهب كذلك ضحيته أرواح لا ينظر لها الساسة إلا نظرة أحجار الشطرنج، وأرقام المقامرة في مغامرة الفوز والهزيمة، حتى مع إعلان تبني داعش لهذا الهجوم الذي لم يعد يُقدم إلا وثيقةَ تأكيدٍ أُخرى (وربما أخيرة) أن داعش ليست إلا صنيعة أمريكية لتحميلها ما يراد لها أن تحمل، مع اعتبارات تتعلق بالتسلح الحالي في السعي لإبادة وتهجير الشعب الفلسطيني؛ مهمة استغرقت وقتا أطول من كل توقعات محدثيها، وحركة تبني داعش لهذا الهجوم ما هي إلا تلقين بوتين درسا مفاده « كن معنا لتنجو من الأعداء الدواعش» رغبة في تحريك شكه عن أوكرانيا التي ما زلنا نعجب كذلك من تعليق بوتين حربه المؤجلة معها وكأنه يبعث لأوروبا وأمريكا وبريطانيا الذين توعدوا بنصرتها عدة وعتادا رسالة مفادها «أنهوا مهمتكم في غزة أيها الرفاق نصرا أو خسارة، وتعالوا لأقاتلكم» بدلا من الخيار المنطقي الذي يفترض استغلال ثغرة العدو لتحقيق نصر مُّرَجَّى!

ختاما؛ لا ينبغي افتراض أن هذه المقالة تقلل من شأن القتل بأي أرض ومهما كانت دوافعه، لكنها محض مقاربات عجلى لفهم المشهد السياسي المليء بالتناقضات، والمشهد الإنساني المليء بالمآسي، فهل يمكننا الوعي من فهم سيناريوهات الحروب المكررة، وهل تمكننا الوحدة الشعبية العالمية من توسيع أرض السلام والإنسانية بتقليص رقعة الدم والخراب؟!

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية