قانون التعليم المدرسي: التوقعات المجتمعية
حظيت نصوص قانون التعليم المدرسي الصادر مؤخرًا بموجب المرسوم السلطاني رقم 31 /2023 بحالة واسعة من التداول المجتمعي (قبل وبعد) نشر مواد القانون، وهو أمر مبرر؛ كون أن هذا القانون يلامس بموادهِ (كل بيت في عُمان)، ويضع خط مصلحة واسعة مع كل الفاعلين الاجتماعيين، من الطلبة والعاملين في الحقل التربوي إلى المربين ومن في سياقهم الاجتماعي. ومثلما عرجنا في مقالات سابقة في هذه المساحة فإن القوانين التي صدرت أو هي قيد الاستصدار في دورتها التشريعية في هذه المرحلة هي قوانين (محورية)، تعيد تشكيل العقد الاجتماعي للمرحلة، وعلى ضوء الممارسات والمبادئ التي ترسخها فإنه من شأنها أن تخلق أنماطا جديدة لتشكل العلاقة بين المجتمع والدولة في سلطنة عُمان. وبالعودة إلى قانون التعليم المدرسي، فإن ما يمكن قراءته حيال طبيعة القانون أن له ثلاث سمات أساسية: فهو يعطي مساحة من المرونة (للجهات المختصة بالشأن التعليمي) لتكييف أوضاعها بما يتسق وتحقيق الغايات الكبرى للنظام التعليمي في سلطنة عُمان، وذلك من خلال إفساح المجال للوائح التنفيذية لترجمة التوجهات الأساسية للقانون بطريقة يسهل من خلالها تكييف تلك الأوضاع. أما السمة الثانية، فهو يرسخ ويؤكد على مبدأ (المسؤولية التشاركية) بين أطراف النظام التعليمي والفاعلين والمؤثرين فيه، وعلى وجه الخصوص (المدرسة وولي الأمر)، ويحوكم تلك العلاقة بشكل واضح ومسؤول. أما السمة الثالثة وهي الأهم في تقديرنا فهي في تأكيده في المادة (2) من (الأحكام العامة) على أن غاية نظام التعليم المدرسي الكبرى هي «تحقيق النمو الشامل والمتكامل لشخصية المتعلم في جوانبها العقلية والعاطفية والروحية والجسدية». هذه الغاية في ذاتها هي مدعاة للتحليل والتضافر في الآراء والأفكار والتحليلات والتصورات لوضع الطرق المنهجية لتحقيقها أو لضمان تحققها في سياق النظام التعليمي.
ولكن؛ ما هي التوقعات المجتمعية إزاء قانون التعليم المدرسي في ظل الواقع الاجتماعي الراهن؟ نعتقد أن هناك ثلاثة توقعات رئيسية: ففي ظل حالة التدافع القيمي الراهنة، فإن النظام التعليمي مسؤول عن تحديد القيم المجتمعية (الأساسية) التي تتطلب المرحلة التأكيد عليها، وترسيخها، وإثارة الهواجس في حال اختلالها، فالمطلوب اليوم من أنظمة التعليم في مراحلها المختلفة، تحديد وتشخيص تلك القيم بشكل واضح وإدماجها في مختلف عمليات النظام التعليمي. يمكن الاستناد هنا إلى مادة رئيسية ومهمة جاءت في مضمون القانون في سياق (حقوق الطلبة) في المادة (42) والتي تنص على المساواة بين الطلبة وعدم التمييز بينهم على أساس (الجنس، أو الأصل، أو اللون، أو اللغة، أو الدين، أو المذهب، أو الموطن، أو المركز الاجتماعي، أو لأي سبب آخر). وهذه المادة تعطينا مدخلًا مهمًا للقيم المتطلب التركيز عليها في محورية النظام التعليمي وعملياته. وحددت بعضها المادة (25) من (قيم العمل، وقيم الإنتاج، وقيم الإتقان، والمشاركة المجتمعية الفاعلة، والمحافظة على البيئة، وحسن استثمار مواردها). ويمكن القول أن الواقع المجتمعي في خصوصيته العُمانية وسياق متغيراته العالمية يفرض التركيز على 10 قيم أساسية في تقديرنا وهي: (احترام المكون الثقافي للمجتمع وتمثله - قيم الإنتاجية المسؤولة والإتقان - الانفتاح والاندماج العالمي المسؤول - النزاهة العمومية - الاعتماد على الذات وتحديد المصير المسؤول - استشعار أهمية مكونات الوحدة الوطنية والتمسك بها - الحُرية المسؤولة - عدم المساس بمحددات الانسجام المجتمعي - نبذ التعصب والتوجهات المتطرفة - احترام قيم الحوار المتزن والمسؤول).
أما التوقع الآخر فهو مزيد من المشاركة المجتمعية لأطراف المصلحة في صياغة محتوى التعليم والتمدرس. تتحدث اليوم الكثير من الأدبيات عن دور المتعلمين في صنع المحتوى التعليمي، يقول Michael Wehmeyer إن «تمكين الطلاب من المشاركة في تطوير جزء من المنهج الدراسي ليس ضروريًا فقط لكي يصبحوا متفردين ولكنه يمنحهم أيضًا الفرصة لممارسة حقهم في تقرير مساراتهم ، حيث يوفر الفرص للطلاب لاتخاذ الخيارات واقتراح محتوى تعليمي جديد والتعرف على نتاج خياراتهم. ويساعدهم على أن يصبحوا مالكي تعلمهم وكذلك تطوير عادات ومهارات التعلم مدى الحياة. إنه يساعدهم على الوصول إلى معلومات حول تعلمهم - فوق ما يتعلمونه ويفهمون سبب تعلمهم». ويمكن أن تكون هناك منهجيات تشاركية في إعداد محتويات التعلم عمومًا، فالمحتوى التعليمي لا يقل أهمية عن أي مسار استراتيجي آخر للتنمية، كونه يشكل ذهنية الجيل، ويؤطر سلوكه ومعارفه، ويحدد آفاق نموه وفرصه الاقتصادية. وهناك توقعات مجتمعية أخرى منها تطوير حس الرقابة الذاتية للمتعلمين، عبر تحفيز الوعي القانوني وتحفيز الوعي المتصل بعواقب بعض السلوكيات المجتمعية، وحفز محركات الوعي الوطني عمومًا. وهناك توقعات تتصل أيضًا بضرورة تنبه النظام التعليمي إلى انتشال المتعلمين من عصر (فقدان الانتباه). تشير دراسات Microsoft أن فترة توسع انتشار وسائط ووسائل التواصل التقني ساهمت في تقليص مستويات انتباه الكائن البشري من نحو 12 ثانية في المتوسط إلى ما يقارب 8 ثوان حتى عام 2015. واليوم يعد (الانتباه) في حد ذاته موردا مهما للنظام التعليمي، وبالتالي فإن جزءا أساسيا من مهمة تطوير المعلمين إنما تكمن في اكتسابهم المهارات والجدارات التي تمكنهم من حيازة أكبر قدرة من (انتباه المتعلمين)، وعليه ففي ضوء ما تشير إليه المادة (51) من القانون، حول ضرورة توفير برامج التطوير المهني المستمر لأعضاء الهيئة التعليمية. فإن جزءا من هذه الجدارات يمكن أن يستقى من العلوم العصبية، والعلوم السلوكية، وعلوم التسويق، التي تشكل رافدًا مهمًا لمهارات أساسية مثل حيازة الانتباه، والقدرة على التعليم السردي، ومهارات العرض المرئي فائقة التأثير، ومهارات السيطرة على التحيزات المعرفية للمتعلمين. يبحر النظام التعليمي اليوم أيضًا في ظل سياقين يتطلبان من عملياته المساهمة في التكيف معهما: الأول عصر تبرز فيه التفضيلات الذاتية للمتعلمين، والميل إلى التخصيص في خيارات التعلم، ونعتقد أن الأطر الموضوعة لخطة التعلم التقني والمهني من الممكن أن تتناسب جزئيًا للتكيف مع هذا المعطى، أما السياق الآخر فهو الحاجة إلى ربط المتعلمين بشكل أكبر بقضايا المجتمع، وتحفيز الهاجس الجمعي بتلك القضايا، وهنا نعتقد بضرورة وجود مواد دراسية/ أنشطة مدرسية تعنى بتفعيل مهارات ومعارف (الابتكار الاجتماعي)، حيث تصمم تلك المواد أو الأنشطة في مراحل التعلم المختلفة لربط الطلبة بقضايا مجتمعية ملحة، ويتم تدريبهم على وضع معالجات قائمة على الابتكار الاجتماعي للتعامل معها، ولفهم طريقة تحليلها وإيجاد حلول أكثر ديمومة من داخل المجتمع لتجاوزها. وهو في تقديرنا ما سيسهم بشكل أو بآخر في تحقيق النمو الاجتماعي لشخصية المتعلمين. وبلا شك فإن التوقعات متعاظمة اليوم أمام القانون المستصدر وأمام النظم التعليمية عمومًا، إلا أنه يمكننا إيجاز كل ما ذكرناه سابقًا في ثلاثة عناصر أساسية هي رهانات التعليم اليوم: بناء القدرة على النمو الاجتماعي في مجتمعات مضطربة ومتحولة، وربط المتعلمين بهواجس مجتمعاتهم، إضافة إلى الاستثمار البناء والفعال في معطى التقانة للتحول من التدريس إلى التعلم.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
