في الحاجة إلى تأصيل الحوار العام
في القراءة المنهجية لطبيعة التغير الاجتماعي لمجتمعات مثل المجتمع العُماني، والتي تتسم بالتضامنية العالية ونسق التغير الاجتماعي البطيء والمتدرج، وصعوبة التحرك النسبي للبنى الاجتماعية إلى أشكال وأدوار جديدة قياسًا بالزمن سنجد أنفسنا نقع في أخطاء منهجية إذا ما قرأنا التغير بوصفه نقطتين متوازيتين (أ – ب) ، وأن خلاصة القراءة المنهجية للتغير هو استكشاف النقطة (ب) التي وصل إليها المجتمع وكيف كان عند النقطة (أ) في مرحلة زمنية معينة. هذه القراءة دون التدقيق الفاحص لما حدث بين النقطتين تبقى قراءة مشوهة، ولا تعكس بشكل دقيق القراءة الاجتماعية لحالة التغير؛ ففي المجتمعات التي تتسم بقدر مُقاس من التضامنية يصبح التدقيق مهمًا في العمليات الاجتماعية، والرمزيات الناشئة والرمزيات المتلاشية، والقيم الصاعدة والقيم المتلاشية والاتجاهات العامة الصاعدة والاتجاهات العامة الخافتة، ونسق القناعات الجمعية الصاعد ونسق القناعات الجمعية المتلاشي. كل هذه الأبعاد مهمة جدًا لمعرفة ليس فقط (كيف حدث التغير؟) ولكن (ما الذي حدث أثناء مرور المجتمع بحالة التغير؟). فحين نقول إن النقطة (ب) في مجتمع ما تمثل زيادة في انخراط النساء في سوق العمل، أو تزايدًا في نسبة جرائم بعينها، أو تكسرًا للقناعات الجمعية بأهمية التعليم؛ فإن مقتضى القراءة المنهجية لهذه الحالة لا يعني فقط القفز للآثار (النتائج) بأنه سيحدث كذا وستنشأ الظواهر أو المشكلات الاجتماعية الفلانية؛ وإنما مقتضى الفهم هو في تتبع كيف حدث هذا؟ وما طبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة في هذا التغير، وكيف (تشكل) هذا التغير على مستوى الرموز والقناعات والعمليات الاجتماعية عمومًا.
لذلك فإن معالجة المشكلات الاجتماعية أو الظواهر الناشئة لا يمكن التعويل فيه على النتائج الكمية وحدها في قياس وتتبع التغير الاجتماعي، حيث يشكل الحوار العام رصدًا رمزيًا تفصيليًا لطبيعة المشكلة أو الظاهرة والتركيبات الاجتماعية التي أفرزتها. وإن غدت غلبة المعايير والقياس الكمي عقيدة عامة لدى الكثير من الدارسين للعلوم الاجتماعية وأصبحوا لا يعترفون إلا بما يُشكل ظاهرة / أو ما يُشكل مشكلة وفق المعايير الكمية - وهذا من طبيعة العلم – إلا أنه في مجتمعاتنا التضامنية فإن الحوار العام يمكن أن يكون كاشفًا حقيقيًا وفعليًا عن بعض العوارض التي قد تؤدي – في حال أهملت – إلى تكون ظواهر أو مشكلات اجتماعية. وعليه فإن "التزمت" في قياس تغير المجتمعات وظواهرها ومشكلاتها بالنهج الكمي (مع أهميته) قد يهمل الكثير من الحديث (المهم) على هامش ما يتم مناقشته ومحاولة فهمه ومحاولة تتبع مآلاته.
في مقالة مهمة على PBS كتبت كورتني فينوبال بنهاية العقد الماضي تلخيصًا لأهم التغيرات الاجتماعية التي شهدها المجتمع العالمي خلال عقد من الزمن (2010 – 2020)، وذكرت أن من أبرزها أننا أصبحنا ملتصقين أكثر بهواتفنا الذكية وأن هناك موجة واسعة لما يعرف بـ"اقتصاد الوظائف المؤقتة"، وأن العالم بدأ يلمس بشكل جلي خطر القوة التنظيمية لوسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى أن ما كان الحديث عنه من آثار تغير المناخ أصبحت حقيقية وصار الجميع يلمسها في المجتمعات الإنسانية. ويمكن تخصيص هذا الرصد في أي مجتمع شريطة أن يتضافر جهد الرصد (العلمي/ البحثي) مع توسيع نطاق الحوار العام عن مجمل التغيرات والتحولات المجتمعية. يمكننا أن نذهب إلى طرح أسئلة أعمق من قبيل: هل هناك اتجاه لصعود القيم الفردانية في المجتمع؟ وإن كانت الإجابة بالتأكيد، فما هي مآلات هذا الصعود، فيما ينتجه من ظواهر ويبدله من شكل للعلاقات الاجتماعية، ويفرزه من مشكلات اجتماعية، أو يرسخه من قيم أخرى تابعة. ويمكننا السؤال على سبيل المثال أيضًا عن طبيعة اتجاهات النمو السكاني في عُمان: ما الذي سينتج من طبيعة التوقعات السكانية من إفرازات للظاهرة الاقتصادية ومن تحولات في طبيعة الأسرة والرعاية الأسرية، ومن قيم تتصاعد في إطار تركيبة الأسرة الجديدة. نشرت الإيكونومست منذ أيام بيانًا حول زيادة عدد الأشخاص الذي لديهم أحفاد إلى 1.5 مليار جد في العالم بينما كانوا 0.5 مليار في عام 1960. ومثل هذه المؤشرات مهمة لقراءة أعمق للتغير الاجتماعي والاقتصادي فبعض الدراسات تربط ذلك بأنه يتيح فرصًا أكبر لدخول المرأة لسوق العمل، حيث تقوم (الرعاية عبر الأجداد) بإتاحة الفرصة للنساء للالتحاق بالعمل. إلا أن دراسات أخرى تشير إلى أن توسع هذه الشريحة عبر زيادة أمد الحياة وتحسن مستويات اللياقة العمرية سيجعل من الأشخاص لديهم القدرة على الخدمة في الوظائف لسنوات أطول وبالتالي سيكون هناك ضغطًا على أسواق العمل والفرص الوظيفية، ومن جانب آخر سيفرض تشكيل اقتصادات جديدة مصممة لتلبية احتياجات هذه الفئات ونوعية الخدمات التي تتسق مع توقعاتهم وطلبهم.
تلك أمثلة عريضة تقودنا إلى أمر مفاده أن الحاجة أصبحت ملحة اليوم إلى تأصيل الحوار العام حول قضايانا وظواهرنا ومشكلاتنا. نتفق على ضرورة البحث الاجتماعي وتوسيع رقعته وترقيته إلى مستوى الجدية الاجتماعية اللازمة. ولكن الضرورة أيضًا تقتضي تأصيلًا لحوار ينبش بشكل معمق وملموس في مختلف هواجس التحول الاجتماعي. ما يمكن أن يلمسه الباحث العلمي وحساسيته تجاه المشكلة/ الظاهرة الاجتماعية مهم ومنهجي. ولكن ما تنظره العين الاجتماعية قد يعطينا ما هو غير منظور من المشكلة/ الظاهرة الاجتماعية والنتوءات الناشئة عنها وحساسية المجتمع تجاهها وهواجسه حول مستقبلها والعوامل العصية التي تسهم في تشكيلها وبلورتها ومسارها. وعليه فاليوم على المؤسسات الأكاديمية والإعلامية والثقافية ومؤسسات المجتمع المدني أن تتبنى حوارات منهجية (غير عارضة) وإنما راصدة تتقصى الظواهر وتبحث في المشكلات وتفسح المساحات لحوار يقربنا أكثر من الحقيقة الاجتماعية وتحولاتها. ويجب ألا يكون هذا الحوار مأخوذًا بالمناسبات أو المواسم وإنما يكون حوارًا مستديمًا تؤطره ثلاث أسس: المنهجية والواقعية والقراءة الجذرية (أي تلك التي لا تكتفي بملامح الظاهرة/ المشكلة) وإنما تتقصى تطورها وسياقاتها وعواملها المشاهدة وغير المشاهدة التي تسهم في تأطيرها وتكوينها.
