فن صناعة اللون الأرجواني

05 مارس 2024
05 مارس 2024

في أحدث مقالات دورية هارفارد للأعمال، تحدث الكاتب عن الإدارة الفعّالة للشركات الابتكارية الكبرى، والتي تعتمد على النهج التوافقي، وتستهدف الوصول للتآزر والانسجام بين فرق العمل المتعددة، وهي تختلف كثيرا عن الإدارة العمودية التي تتبع التسلسل الإداري، ولا تتطلب الكثير من المهارات، استشهد المقال بتصريح أحد كبار قادة شركات الابتكار التكنولوجي، حيث قال معبرا عن هذه المنهجية: «هم يصنعون اللون الأرجواني مع زملائهم من فرق العمل المتعددة، إذا أحضرت إحدى الفرق اللون الأحمر، تجلب الأخرى اللون الأزرق، ويصنعون معا لونًا أرجوانيا، شيئا مختلفا وأفضل بكثير مما كان أي مهم ليصنعه بمفرده»، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما هي الممارسات اليومية التي يقوم بها القادة لكسر صوامع العزلة ومد جسور التواصل والعمل المشترك بين مختلف فرق العمل؟ وهل يمكن أن تستنسخ المؤسسات الأخرى نهج صناعة اللون الأرجواني من شركات الابتكار؟ يختلف الأمر كثيرا بالنسبة إلى توطين الأفكار والمناهج الابتكارية في سياقات عمل خارج بيئة شركات الابتكار والتطوير التكنولوجي، ففي المؤسسات الكبيرة ذات الأقسام الإدارية المتعددة يواجه قادة العمل تحديا محوريا في ميل التقسيمات إلى العمل بشكل منفرد، والبحث عن مسارات أحادية تخفف من عبء البحث عن القواسم المشتركة من أجل التعاون والتكامل، ويطلق على هذه الظاهرة مجازيا «العزلة العنيدة»، فهي غالبا ما تحدث في الوهلة الأولى بسبب الطبيعة المؤسسية التي فرضت وجود الهيكل العمودي متعدد المستويات، ولكن مع تعمق التحديات تبدأ فرق العمل بالابتعاد عن محاولات تجسير الفجوة وتختار العمل في معزل عن بقية الفرق، وبذلك تتحول المؤسسة إلى عدد كبير من فرق العمل الصغيرة المعزولة، وتصبح المهام عالقة بين هذه الفرق بسبب الازدواجية وتكرار العمل، ويتم هدر الوقت والجهد دون نتائج عمل ملموسة، وهي ظاهرة شائعة جدا في المؤسسات الكبيرة، ولها تأثيرها السلبي والعميق في عرقلة الابتكار، وإبطاء عملية اتخاذ القرار، مما يفرض على قادة العمل ضرورة إذابة صوامع العزلة، وإعطاء الأولوية للقيادة الأفقية عبر المؤسسة، والبحث عن بدائل لترسيخ ثقافة عمل تمنع تفشي العزلة العنيدة، خصوصا في بيئات العمل التي تعتمد بشكل كبير على تشكيل فرق عمل كبيرة، وتنبثق عنها فرق أخرى مصغرة، مما يزيد من احتمالات الازدواجية.

وإذا ما نظرنا إلى الأمر فنجد أن فكرة توطين ممارسات الابتكار الإداري وتنميتها لم تعد اختيارا كماليا، ولكنها ضرورة عاجلة ولا مفر منها، ولن أبتعد كثيرًا، فحينما عصفت الجائحة وفرضت على البشر حالة من التغيير الإلزامي، بدأت المؤسسات في تبني الممارسات الإدارية التي لم تكن يوما في أجندات العمل لديها، وعلى رأسها العمل عن بعد، وأتمتة الخدمات لتحقيق تدابير التباعد الاجتماعي، وإذا نظرنا للجهة المقابلة فإن الشركات الابتكارية الكبرى كانت قد انتهت من دمج الخدمات والعمليات في منصاتها الرقمية قبل الجائحة بزمن، فقد تصدرت الأتمتة هرم الأولويات الاستراتيجية لهذه الشركات باعتبارها استراتيجية رئيسية للنمو المستقبلي ورفع الإنتاجية، كانت هذه الأولوية موجهة في الأساس لرفع تجربة تقديم الخدمات من جهة، وتعزيز مهام العمليات المؤسسية بتقليل الخطأ البشري من جهةٍ أخرى، إذ لم يتوقع أحد بأن تغزو الجائحة حياة البشرية في عام 2020م، ولكن هذه التوجهات ساعدت في سرعة تكييف الشركات لآثار الجائحة أكثر من استجابة المؤسسات التقليدية.

وينتقل ملف تنمية وتوطين الممارسات الابتكارية الإدارية من مرحلة القول إلى الفعل، ويترجم في ارتفاع عدد الدراسات والبحوث والمسوحات الاستطلاعية التي تستهدف تسليط الضوء على أهم التحديات التي تعترض قادة العمل في تحويل المؤسسات التقليدية النمطية إلى هياكل ابتكارية منتجة، وعلى سبيل المثال أظهرت دراسة بحثية بريطانية أجريت مؤخرًا على عدد من الرؤساء التنفيذيين لشركات متوسطة وكبيرة الحجم في قطاع العقاقير والصناعات الدوائية، والمديرين ورؤساء فرق العمل في المؤسسات التي شاركت في هذه الدراسة، أن هناك تحديا واحدا ذكره جميع شاغلي المواقع الإشراقية العليا وهو الصعوبة في تأصيل ممارسات وثقافة العمل المشترك بين المختبرات التطويرية، والفرق التنفيذية، وإذا أسقطنا هذه النتائج على المؤسسات التقليدية يزداد عمق التحدي، إذ يؤدي التعقيد التنظيمي إلى اتساع مسرح تنفيذ العمليات المؤسسية، وهكذا تتوزع المهام بين عدة تقسيمات إدارية، مما يعني في الأساس وجود عمل واحد ولكن في مهام وظائف متعددة، وهذا بدوره يخلق المزيد من العقبات أمام العمل المشترك، ويضع حاجزا إضافيا لإبطاء عملية اتخاذ القرار المناسب في التوقيت الملائم، لأن سيناريوهات العمل تتحول حينها وبشكل تلقائي من دعم احتياجات الموقف بموضوعية، إلى مجرد محاولات لإبراز «اللاعب الأساسي» والأثر الأكبر في القرار النهائي، في حين أنه في الواقع لا يعتمد اتخاذ القرار على مدخلات فرق العمل وحسب، فهناك الكثير من المنطلقات والرهانات الاستراتيجية على جدول الأعمال والتي توجه متخذي القرار لترجيح مسار دون آخر.

وكما الكوكب نراه بعيدًا، أظهرت الدراسات أن هناك مسافات تنفيذية وثقافية شاسعة بين القيادة العمودية التقليدية التي تعتمد على التدرج الوظيفي، وبين عقليات ومهارات وممارسات وأنماط القيادة الأفقية الموجهة لدعم فرق عمل ذات أجندات وأولويات ودوافع متباينة، فالمهارات ليست هي نفسها، لأن موازين الثقل الاستراتيجي لم تعد مرتبطة بالسلم الهيكلي للمؤسسة، فقد يرتبط قرار ما بعمل فريق عمل صغير يضم في عضويته مجموعة من الموظفين المستجدين من ذوي الأداء العالي ولكن هم لا يشغلون مناصب إدارية وإشرافية عليا، ومثل هذه الفرق هي التي تصنع الفارق في الخروج بمرئيات جديدة وابتكارية تضع بين يدي متخذ القرار أنماطًا ابتكارية ومتميزة في فهم التحديات، وتوجيه أدوات المعالجة، وقيادة تغييرات إيجابية وسريعة، وترجمتها إلى نتائج مهمة وملموسة للمؤسسة، وهنا تظهر أهمية تعزيز فرق العمل كمحركات أساسية للإنتاج، وربط أعمال الفرق مع بعضها البعض بجسور الثقة بأن جميع المهام والعمليات تصب في هدف مشترك، وبذلك يصبح دور القيادة هو العثور على الموهبة والخبرة في كل مكان في المؤسسة، وليس في المسميات الهيكلية، فإن أعظم طريق للنجاح هو الذكاء القيادي في انتقاء وتجميع فرق عمل متنوعة التخصصات وفي وأنماط الشخصيات، وتمتلك مهارات الاتصال المهني الفعّال والمستدام مع الفرق الأخرى، بدلا من محاولة قيام كل فريق بإنجاز كل المهام بنفسه، وكما ذكر المقال اقتباسا عن أحد قادة الشركات الرائدة: «إن مهمتي في الأصل هي تجميع شغف وخبرة وحكمة كل فرق العمل وتوليفها معا لضمان قيام كل فريق بأدواره المختلفة والمتكاملة، فأحيانا تكون المتابعة الجيدة أعظم أعمال القيادة».

بقيت الإشارة إلى تحديات خارجية أخرى تواجه توطين الأفكار والمناهج الابتكارية، أو في صناعة اللون الأرجواني كما أسلفنا، وهي التأثير السلبي الناتج عن عدم وضوح الصورة الكاملة لإيجابيات وفوائد منهجية فرق العمل المتعددة لدى الشركاء الخارجيين، وهذا التحدي هو بمثابة الاختبار الحقيقي لمدى التزام قادة العمل من الدفع بجهود التطوير والابتكار نحو التنفيذ الفعلي على المستوى الداخلي والخارجي، حيث إن الاستمرار في تبني ممارسات صغيرة ومستدامة نحو الابتكار والتجديد تقطع شوطًا طويلًا في بناء الثقة مع فرق العمل، وتعزيز المصداقية مع الشركاء والمستفيدين، لأن النجاح داخليا في ترسيخ أنماط عمل قائمة على الشراكة والتعاون سوف تلهم الشركاء من خارج المؤسسة بالتكييف مع هذه البيئات الجديدة ليس كطرفٍ خارجي أو جهة مستفيدة، وإنما كجزء من المنظومة الجديدة الفاعلة، وتؤكد الدراسات الميدانية أن مقدار الوقت الذي تستغرقه القيادة المؤسسية في تحقيق الأهداف المتعددة التخصصات والغايات عبر منهجيات فرق العمل الأفقية هي أقل بكثير مقارنة بأنماط القيادة العمودية، كما أن الجودة النوعية في بناء المهارات المهنية مثل مهارات التواصل والتفاوض وتقبل التنوع الثقافي تبدو متحققة بشكل أكبر في منهجيات الفرق التخصصية، ولذلك فإن التعلم من التجارب الناجحة، والتحول نحو الأنماط الابتكارية هو الحل الأمثل لبناء المرونة المؤسسية التي تضمن أقصى درجات التكييف الذكي في عالم تتسارع في التطورات والمستجدات، ويتطلب فيه إنجاز العمل إلى المزج والتوافق بين جميع الألوان والأطياف.

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار