عندما ينتصر المجتمع الدولي للحق الفلسطيني!!
في الوقت الذي واجهت فيه القضية الفلسطينية على امتداد الفترة الأخيرة ظروفا صعبة، وممارسات محبطة متعمدة من جانب أطراف عدة، وبمزاعم مختلفة وملفقة تضع في اعتبارها مصالح إسرائيل، والمصالح الذاتية للأطراف المتعاونة معها بالطبع، بغض النظر عن أية اعتبارات للقانون والشرعية الدولية وحتى للأخوة والروابط العربية والإسلامية أحيانا، جاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في آخر أيام العام المنصرم ليخفف ولو قليلا من وطأة هذه الظروف التي دفعت القضية الفلسطينية إلى الخلف قليلا في سلم أولويات القضايا الإقليمية والدولية التي تفرض نفسها على أجندة المجتمع الدولي واجتماعات مؤسساته ذات الأهمية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة وهيئاتها والمنظمات التابعة لها. ففي آخر أيام شهر ديسمبر الماضي وقبل يوم واحد من إعلان نتنياهو نجاحه في تشكيل أكثر الحكومات يمينية في إسرائيل، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها العادية الحالية على قرار يطالب محكمة العدل الدولية بالنظر في الممارسات الإسرائيلية التي تمس حقوق الشعب الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس، والطلب من المحكمة إصدار رأي استشاري عاجل حول طبيعة الاحتلال الإسرائيلي طويل الأمد لفلسطين، والضم الإسرائيلي غير القانوني للأراضي الفلسطينية. وحول الأبعاد المختلفة لهذا القرار، فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي: أولا، إن من الجوانب الهامة لهذا القرار، أنه صدر بهذه الصيغة وبهذه الأغلبية (تأييد 87 دولة في مقابل معارضة 26 دولة ) بعد معركة دبلوماسية وسياسية شرسة في أروقة الأمم المتحدة وخارجها، تم فيها ممارسة الكثير من الضغوط من جانب إسرائيل والولايات المتحدة وأطراف غربية أخرى معروفة، ليس فقط ضد الرئيس الفلسطيني محمود عباس لسحب مشروع القرار أو تأجيله، ولكن أيضا ضد العديد من الدول المؤيدة للقرار، والمتعاطفة مع الحقوق الفلسطينية لمعارضة المشروع، أو على الأقل الانتقال من تأييد مشروع القرار إلى الامتناع عن التصويت عليه، للحد من عدد المؤيدين له، وهو ما حدث بالنسبة لعدد من الدول الأفريقية وغيرها طمعا في الحصول على مكاسب ما من إسرائيل وهذا أمر مفهوم، وقد حاولت أوكرانيا على سبيل المثال وعلى نحو سافر، عندما طلبت من إسرائيل الاستجابة إلى طلباتها السابقة الحصول على أسلحة دفاع جوي إسرائيلية، التي مضى على طلبها عدة أشهر. على أية حال، فإنه في ظل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة فأن تصويت هذا العدد من الدول ( 87 دولة ) لصالح مشروع القرار، أي نحو 44 % من عدد الدول في الأمم المتحدة، يشير إلى أنه لا تزال هناك دول كثيرة تقف إلى جانب الحقوق الفلسطينية المشروعة، فضلا عن أن دراسة نمط التصويت لهذه الدول وغيرها في الجمعية العامة للأمم المتحدة يحث على التمسك بالعمل من خلال هيئاتها ومنظمات المجتمع الدولي الأخرى التي يمكن العمل من خلالها.
البعد الثاني في الأهمية بالنسبة لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة يتمثل في البعد القانوني له، وذلك من خلال نقطتين على جانب كبير من الأهمية، أولهما أن هذا القرار يشكل اختراقا فلسطينيا في العمل من أجل الوصول إلى مختلف هيئات الأمم المتحدة، والسعي إلى إشراكها في جهود الحفاظ على الحقوق الفلسطينية المشروعة، والتأكيد على أهمية وضرورة حماية قواعد القانون الدولي لها، ومسؤولية المجتمع الدولي في ذلك، وهو أمر عارضته ولا تزال تعارضه، على نحو شرس إسرائيل والولايات المتحدة وعدد من الدول المؤيدة لهما، وهو ما ظهر من قبل في معارضتهم الشديدة للطلب من المجلس الدولي لحقوق الإنسان القيام بتحقيقات في جرائم الحرب التي حدثت خلال الحروب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وإذا كانت الانتهاكات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين قد أصبحت مطروحة على أجندة اجتماعات المجلس الدولي لحقوق الإنسان بشكل أو بآخر، رغم تلك المعارضة، فإن نجاح الفلسطينيين بتنسيق ودعم عربي، تلعب فيه مصر وسلطنة عمان دورا بارزا ومتواصلا، في الوصول إلى محكمة العدل الدولية، وطلب رأيها الاستشاري في ممارسات إسرائيل واحتلالها، وضمها للأراضي الفلسطينية، هو خطوة كبيرة؛ لأن محكمة العدل الدولية جهة قانونية ذات ثقل يمكن اللجوء إليها في دعم الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني الشقيق. أما النقطة الثانية وهي بالغة الأهمية أيضا فإنها تتمثل في أنها تمس مباشرة الجوانب القانونية ذات الصلة باحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية، وانتهاكاتها للحقوق الفلسطينية وبسياسات الاستيطان المتوحشة، وبانتهاكات مختلف قرارات الشرعية الدولية التي صدرت في هذا المجال على امتداد العقود الماضية، ومن شأن مناقشة محكمة العدل الدولية لهذه الجوانب أن يفتح أبوابا عديدة؛ لبحث ومناقشة وإصدار آراء قانونية دولية لها احترامها على المستوى الدولي بشأن سياسات إسرائيل، وبشأن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهذه لها ما بعدها بالتأكيد؛ لأنه سيتم بالقطع البناء عليها في المستقبل، ومن هنا تتضح أسباب الانزعاج الإسرائيلي من هذه الخطوة البعيدة النظر أمس واليوم وغدا، ومحاولة عرقلتها بشتى الطرق.
ثالثا: إنه بغض النظر عن الترحيب الفلسطيني، وبعض الترحيب العربي على استحياء بهذا القرار لسبب أو لآخر، فإن الدعاية الإسرائيلية ضد القرار ارتكزت في جانب منها، على أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة هي بالأساس توصيات غير ملزمة إلا في حالات معينة، وأن إسرائيل سبق وأن رفضت الكثير من قراراتها، كما أن رأي محكمة العدل الدولية أو فتواها القانونية له طابع استشاري ولن يلزم إسرائيل. غير أن ذلك مردود عليه ببساطة وبسؤال بسيط وهو إذا كان الأمر لا يهم إسرائيل إذن لماذا انزعجت منه وعملت بمساعدة مؤيديها على منع صدور القرار ؟ من جانب آخر، فإنه من المعروف أن إسرائيل ذاتها وجدت بموجب قرار تقسيم فلسطين الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947، ومن ثم فإن الجمعية العامة للأمم المتحدة لها دور مهم وأثر كبير فيما حدث في فلسطين وما ترتب على إنشاء إسرائيل، ومن غير المنطقي أن تأخذ إسرائيل ما يناسبها ويحقق مصلحتها، وتعرقل ما يتصل بالفلسطينيين وحقوقهم المشروعة، في حين أن القرار نص على مناطق فلسطينية ومناطق إسرائيلية مع وضع خاص للقدس، والمؤكد أن إسرائيل تخشى فتح هذه المسائل أمام محكمة العدل الدولية وبحثها القانوني لها؛ لأن ذلك سيعيد مناقشة جوانب حيوية وحساسة بالنسبة لها تدينها وتظهر مخالفاتها وانتهاكاتها الصارخة في فلسطين وضد الفلسطينيين وهو ما لا تريده إسرائيل، خاصة في ظل حكومتها الحالية ومخططاتها الاستيطانية التي تريد تنفيذها في القدس والضفة الغربية بسرعة شديدة. ومع تفهم الطبيعة القانونية للفتاوي والآراء الاستشارية لمحكمة العدل الدولية، وعدم إلزاميتها إلا لمن يقبل ولاية المحكمة، ويرتضي اللجوء إليها، وهو ما ترفضه إسرائيل، إلا أنه يظل لآراء المحكمة وفتاويها قيمة قانونية أدبية كبيرة باعتبار أنها تصدر استنادا إلى القانون والشرعية الدولية والسوابق التي صدرت في مجال القضايا التي تتناولها، ومن ثم فإن رأي المحكمة، حتى ولو كان استشاريا، يترك إسرائيل عارية ومفضوحة في انتهاكها القانوني للحقوق الفلسطينية، وهو ما يشكل دعما للتحركات الفلسطينية والإقليمية والدولية المخلصة؛ لاستعادة الحقوق الفلسطينية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس وفق ما تضمنته مبادرة السلام العربية والعديد من القرارات الدولية الصادرة عن الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة. وبينما يزور مستشار الأمن القومي الأمريكي إسرائيل لبحث سياسات حكومة نتنياهو الجديدة، خاصة مع تأكيد واشنطن على أنها تعارض تغيير الوضع الراهن في القدس من جانب واحد، وذلك بعد الزيارة الرعناء لوزير الأمن الداخلي الإسرائيلي للمسجد الأقصى في الثالث من يناير الجاري، فإن دعم المجتمع الدولي وتأييده لقرار الجمعية العامة المشار إليه يعزز الأمل، ويحد من الإحباط، ويبعث برسالة تشد من أزر النضال الفلسطيني لإقامة الدولة الفلسطينية، واستعادة الحقوق المسلوبة.
