عندما يقطع الجمهور رقبة حامل الرسالة

25 يناير 2022
25 يناير 2022

يروي كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف" لكاتبه شهاب الدين الأبشيهي قصة الأعرابي الذي كان مقربا من الخليفة المعتصم، ما جعل أحد أعوان الخليفة يحاول الكيد له بسبب مكانة ذلك الأعرابي عند الخليفة فنجح في كيده. وقد حدا ذلك بالخليفة أن يرسل مع الأعرابي رسالة إلى أحد جنوده تنص على قطع رقبة حامل الرسالة. وعندما رأى الكائد الرسالة عند الأعرابي حدثته نفسه بالطمع ظنا أن في تلك الرسالة مكافأة للأعرابي، فطلب أن يتكفل هو بإيصالها إلى الجندي وكانت النتيجة أن قُطِعَ رأس الكائد ونجى الأعرابي.

لكن التساؤل المرتبط بتلك القصة وفي سياق ما تم تداوله مؤخرا من نقاشات عبر منصات التواصل الاجتماعي هو: لماذا لجأ الجمهور بنفسه إلى قطع رقبة حامل الرسالة رغم أن الرسالة لم تنص على ذلك؟

طور عالم النفس وخبير التواصل الشخصي الألماني فريدمان شولز فون ثون نموذجا محدثا للنموذج التقليدي في التواصل الذي ينص على ضرورة وجود المرسِل والمستقبِل والوسط والرسالة من أجل تمام عملية التواصل. حيث يوضح نموذج فريدمان - والذي سماه "الآذان الأربع للتواصل" - أن استيعاب المستقبِل (المتلقي) للرسالة لا تحكمه الرسالة بشكلها المجرد فحسب، بل تحيط بتلك الرسالة أربعة عوامل يمكنها أن تحدد طريقة فهم المتلقي لها. وتتلخص تلك العوامل - كما صاغها فريدمان في نموذجه - في: الحقيقة أو المعلومة الصرفة المتضمنة في الرسالة، وما يحاول المرسِل التعبير عن نفسه به من خلال تلك الرسالة، وطبيعة العلاقة بين المرسِل والمستقبِل، وأخيرا الاستمالة أو ما ينبغي أن يقوم به المستقبِل نتيجة تلقيه لتلك الرسالة.

ويفسر فريدمان العوامل الأربعة في نموذجه بحيث يكون عامل الحقيقة أو المعلومة الصرفة عادة في واجهة الحديث وبشكل بارز وواضح، ومقابل ذلك تصغي "الأذن الأولى" المرتبطة بالمعلومات أو البيانات المتضمَّنة في الرسالة من أجل معالجتها وفهمها من قبل المتلقي. أما بالنسبة للعامل الثاني المتعلق بالتعبير عن الذات، فإن الأفراد عادة ما يميلون إلى التعبير عن شيء متعلق بهم سواء كان ذلك عن قصد أم دون قصد، وضمنيا أم صراحة، ويتمثل ذلك في التعبير عما يعتمل في دواخلهم من مشاعر، أو موقفهم من الحقيقة أو المعلومة المذكورة في الرسالة، أو فهمهم لطبيعة دورهم حيال ذلك الموضوع، وهو ما تتلقاه "الأذن الثانية" التي تركز على الكيفية التي يعبر بها المرسِل عن نفسه من أجل محاولة فهم شخصيته أو موقفه. وبالنسبة للعامل الثالث وهو طبيعة العلاقة بين المرسِل والمستقبِل فإن صياغة الرسالة عادة ما تتضمن علامات أو نبرات تدل على العلاقة بين الطرفين، وبالتالي تكون مهمة "الأذن الثالثة" الإجابة على تساؤلات المتلقي حول ما يشعر به تجاه طريقة إيصال الرسالة إليه أو نظرة المرسل تجاهه أثناء إيصال تلك الرسالة. وربما يكون أبسط الأمثلة في هذا السياق في حال تلقي شخص ما عبارة: "هل لديك مصروف في جيبك؟" من ثلاثة أشخاص مختلفين: أحد الوالدين، أو أحد الأصدقاء، أو شخص غريب في الشارع (لص أو متسول)، فإن طبيعة العلاقة مع المتلقي تعطي معاني مغايرة بين المرسِلين الثلاثة. أما العامل الرابع في النموذج - وهو الاستمالة - يتعلق بالتاثير الذي يريد المرسل إحداثه لدى المستقبِل سواء كان ذلك توجيه تعليمات أو إبداء نصح أو إثارة رغبات أو إحداث تأثيرات أو نقل مشاعر. وبذلك تكون "الأذن الرابعة" هي المعنية بمعرفة ما يتوجب على المستقبِل فعله نتيجة وصول تلك الرسالة إليه.

إذن وبإسقاط نموذج فريدمان على ما نشره بعض الفاعلين والإعلاميين عبر منصات التواصل الاجتماعي حول الأحد الموعود، فإنه يمكن استخلاص عدد من النتائج أولها استخدام المعلومات الصرفة (الشحيحة) التي تم نشرها والتي قد تنسجم مع ترقب فئات مختلفة من المجتمع لما يمكنه أن يسهم في التخفيف من تأثيرات مبادرات الحكومة في إعادة توجيه دعم قطاع الكهرباء، ويمكن تلخيص تلك المعلومة الصرفة في "أن هنالك أخبارا إيجابية ستصدر يوم الأحد حول موضوع الكهرباء". كما يمكن استخلاص عنصر البناء على العلاقة بين المرسل والمستقبل من حيث مستوى المصداقية لدى الجمهور ومخاطبة ما يشغل المجتمع من قضايا الأمر الذي عزز من الانتشار الواسع والسريع لتلك الرسالة مع وجود الفترة الكافية لذلك والشح الذي تشهده إجازات نهاية الأسبوع عادة في الموضوعات التي يمكن للمجتمع تداولها ومناقشتها. أما العنصر الثالث الذي يمكن استخلاصه فهو تعزيز الشعور لدى المجتمع بالترقب والانتظار، وهو عنصر ذو حساسية عالية خصوصا وأن التجارب السابقة قد أثبتت أن مثل هذه الممارسات المتمثلة في مشاركة أنصاف المعلومات لا تحقق نتائج إيجابية وذلك لكونها ترفع أسقف التوقعات - والأمنيات - عاليا. كما يبرز كأهم دروس هذا الموضوع تعزيز مصداقية القنوات الرسمية سواء تلك التابعة للمؤسسات ضمن أنشطة الإعلام المؤسسي، أو وسائل الإعلام التي تخضع لمستويات أعلى من التنظيم وفق المنظومة الحالية.

إن مما لا يخفى على المتابع لتطورات الموضوع أن العلاقة بين المرسل والمتلقي في مثل هذه الحالات لن تكون بالطبع كما كانت قبل الأحد الموعود. وبالرغم من حسن النية التي يمكن أن تكون خلف نشر تلك الرسالة ببث روح الأمل والتفاؤل، أو افتراض ممارسة أحد مجالات العمل الإعلامي وهو السبق الصحفي، إلا أن الجمهور من تلقاء ذاته قد قرر وضع تلك الشخصيات في زاوية ضيقة في ردة فعل أشبه بقطع رقبة حامل الرسالة. وفي هذا السياق فإن من المهم وجود اليقين التام لدى مختلف الأطراف بأن تلك الممارسة لم تكن بإيعاز من الجهات المعنية - فهي أكثر وعيا من المخاطرة ببث رسائل هامة بشكل غير محكم - وإنما نتيجة اجتهاد جانبه الصواب في هذه المرة.

إن من المهم التأكيد على أهمية الدور الذي يمكن أن يؤديه الفاعلون في القضايا الوطنية، وقبل ذلك الفهم الكامل بأن ما يقوم به معظمهم هو وسيلة لكسب الرزق - ولا عيب في ذلك - وهو ما ينطبق أيضا على دور الإعلاميين بممارستهم لمهنة نبيلة، والذين يمكن النظر إليهم بعين الشراكة لا النِّدِّيَّة. لذا فإنه سيكون مما يحقق المصلحة العامة إرساء الأطر المنظمة للعلاقات الإعلامية بما يلبي أولويات المؤسسات من جهة ووسائل الإعلام والإعلاميين من جهة أخرى، إلى جانب وجود المواثيق المنظمة لمهنة الصحافة، وأخيرا النظر في الدعوات المستمرة إلى تعزيز البيئة المنظمة لنشاط الفاعلين بما يغلب المصلحة العامة ويعود بالفائدة على مختلف الأطراف في تلك المنظومة.

• بدر بن عبدالله الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية