عن مدى قدرة وسائل الإعلام على الاستمرار - 3

09 أغسطس 2022
09 أغسطس 2022

بالرغم من تنوع نماذج العمل التجاري للمؤسسات الإعلامية، إلا أن هناك العديد من الاجتهادات في سبيل الخروج بنماذج عمل جديدة أو التنبؤ بها على الأقل

استكمالا لآخر ما تطرقت إليه هذه المساحة الأسبوع الماضي حول تمحور نماذج العمل التجاري للعديد من المؤسسات الإعلامية حول خمسة أنواع أساسية، تتبنى بعض تلك المؤسسات نموذج الترخيص، وهو يتلخص في أن تقوم المؤسسة بصناعة المحتوى الإعلامي فقط دون أن تؤدي أي دور في نشره للجمهور؛ بحيث تتعاقد مع مؤسسات إعلامية أخرى بحيث تحصل تلك المؤسسات على حقوق نشر المحتوى الإعلامي وتقوم على ضوئه بإتاحته لجمهورها.

ويمكن بناء على هذا النموذج الوصول إلى خلاصتين، أولهما أن سلسلة القيمة في قطاع الإعلام وأنشطته التجارية تتيح للمؤسسات ضمنه ممارسة منهجية التعامل التجاري مع المؤسسات الأخرى في صميم العمل الإعلامي (وهو ما يسمى في لغة الأعمال Business-to-Business أو B2B) وهو ما يمكن البناء عليه بشكل أكبر في سبيل تطوير قطاع الإعلام محليا، وثانيهما هو أنه لا يشترط أن تمتلك كل المؤسسات الإعلامية القدرة والإمكانات والموارد والكفاءات من أجل نشر المحتوى الإعلامي الذي تصنعه، بغض النظر عن ما إذا كان السبب وراء ذلك تفضيلات معينة في إدارة مواردها وإمكاناتها أو نظرا لطبيعة عملها مثل شركات إنتاج محتوى الفيديو أو وكالات الأنباء الخاصة. غير أن من مآخذ هذا النموذج عدم ضمان مصير المحتوى ومدى تقبل الجمهور له وإقباله عليه نظرا لأن مهمة النشر تكون عند طرف ثالث.

وتتبع بعض المؤسسات الإعلامية نموذج عمل "المحتوى الترويجي"، والذي يمكن تعريفه ببساطة على أنه القيام بتوظيف المحتوى الإعلامي الذي تصنعه المؤسسة من أجل الترويج لمنتج أو خدمة أو جهة ما، نظير الحصول على مقابل مادي من تلك الجهة. ويمكن أن ينطبق هذا النموذج بشكل أوضح على وسائل الإعلام المتخصصة في نمط الحياة مثل الموضة والصحة والأزياء وغيرها، حيث يقوم بعضها بالتوسع في هذا النموذج عبر إيجاد متاجر إلكترونية تابعة لها تقوم بعرض منتجات تتناسب مع مجال عملها الإعلامي والموضوعات التي تقوم الوسيلة بتناولها.

أما النموذج الخامس فهو قد يكون أشهرها -وربما أقدمها- على الإطلاق العائد من الإعلانات. ويتلخص تنفيذه في القيام بصناعة محتوى إعلامي كافٍ لجذب انتباه شريحة من الجمهور، ووضع مساحات مخصصة للإعلانات يمكنها هي الأخرى الحصول على نصيبها من انتباه الجمهور. وقد تطورت هذه الممارسة عبر مختلف الأزمنة والوسائل الإعلامية حتى بلغت مستوى جيدا من قابلية البرمجة والتفاعلية والاستهداف والقياس بفضل تقنيات الإعلان البرمجي.

وبالرغم من تنوع نماذج العمل التجاري للمؤسسات الإعلامية، إلا أن هناك العديد من الاجتهادات في سبيل الخروج بنماذج عمل جديدة -أو التنبؤ بها على الأقل- حيث سعت بعض المؤسسات غير الحكومية وشركات الاستشارات الإعلامية إلى ابتكار وتصنيف أنواع جديدة من نماذج العمل التجاري لوسائل الإعلام. ويمكن حصر تلك النماذج في ما يتعلق بترسيخ نموذج عمل بيع الإعلانات عبر التوسع في تبني التوجهات والتقنيات الإعلانية الحديثة، أو البناء على البيانات التي تمتلكها المؤسسة الإعلامية من أجل إتاحتها بطريق تجارية ومشروعة لشركات أخرى -مثل قواعد بيانات المشتركين- وهي ممارسة آخذة في النمو عالميا، أو تطوير ممارسات وخيارات الاشتراك ليكون عبر المواقع الإلكترونية لوسائل الإعلام مع إتاحة خيارات الدفع المصغر للمحتوى المفرد أو الفترات الزمنية القصيرة، أو النماذج المرتبطة بإيجاد أنشطة تجارية رديفة مثل تنظيم الفعاليات مثل منتديات الإيكونوميست، أو موضعة الوسيلة الإعلامية كمؤسسة خيرية تتقبل التبرعات من عموم الجمهور مثل ما تفعله صحيفة الجارديان البريطانية.

غير أن تلك الاجتهادات والتنبؤات لوحدها قد لا تكون العنصر الضامن لاستمرارية وسائل الإعلام كمؤسسات تجارية -عالميا ومحليا- وهو الأمر الذي قاد إلى وجود مفاهيم جديدة تؤمن بأهمية وجود واستمرار وسائل الإعلام نظرا لما تقدمه من محتوى ذي مهنية وجودة ومصداقية أعلى مما يتداوله عموم الجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. ومن أبرز تلك المفاهيم الجديدة التعاونيات الإعلامية Media Cooperatives والذي يتلخص في إسقاط منهجية عمل الجمعيات الاستهلاكية التعاونية على المؤسسات الإعلامية، بحيث يسهم عموم المجتمع أو فئة منه في تمويل المؤسسة مقابل امتلاك تلك المجموعة الحق في اتخاذ القرارات المتعلقة بالمؤسسة، فيما يقوم مفهوم المؤسسات الإعلامية غير الربحية على مبدأ التحول لنموذج عمل الجمعيات الخيرية أو المؤسسات المجتمعية Social Enterprises وهو ما يوفر على المؤسسة العديد من التكاليف أبرزها الضرائب والرسوم الحكومية، إضافة إلى ظهور مفهوم الاندماجات بين وسائل الإعلام التقليدية ووسائل الإعلام الرقمية لتكوين كيانات تجارية أكثر قدرة على الاستمرارية والابتكار على أساس من المهنية.

وإضافة إلى تلك المفاهيم يعود مفهوم الدور الحكومي إلى الواجهة، حيث لا تزال الحكومة الفيدرالية تقوم بتمويل وسائل الإعلام المحلية في الولايات عبر "مؤسسة البث العمومي Corporation for Public Broadcasting" منذ عام 1967، أما مؤخرا فقد أصدرت ولاية نيوجيرسي قانونا يؤسس بموجبه مؤسسة غير ربحية تتولى تمويل المشروعات التي تعمل على ضمان حق وصول المواطنين إلى المعلومة والتفاعل مع المواطنين والتربية الإعلامية تحت مسمى "تحالف الإعلام المدني Civic Information Consortium"، بينما أصدر حاكم ولاية نيويورك أمرا تنفيذيا يلزم كافة مؤسسات حكومة الولاية بتخصيص نصف إنفاقها الإعلاني لشراء مساحات إعلانية في وسائل الإعلام المحلية دعما لها.

ورغم أن الحديث في شؤون وشجون نماذج العمل التجاري لوسائل الإعلام المحلية لا ينتهي، إلا أن هناك عنصرا مهما ينبغي التنبه إليه في سياق ذلك الحديث وهو خصائص السوق المحلي، والتي تشمل سلوك الجمهور في استهلاك المعلومات والأخبار، وكذلك حجم السوق مقارنة بأسواق إعلامية مجاورة وعالمية، لذا فإن أي دعوة إلى المؤسسات الإعلامية والجهات المعنية للتركيز على نماذج العمل التجاري لوسائل الإعلام يجب أن تصاحبها الاعتبارات اللازمة التي يمكن أن تسهم في تغيير تصورات وسلوك الجمهور تجاه وسائل الإعلام، وكذلك أهمية إيجاد المنتج الإعلامي الذي يمكن أن يسهل لوسائل الإعلام المحلية التوسع إلى الأسواق المجاورة أو العالمية.