عن علم الرموز وسرقة ألوان الطيف

28 يونيو 2022
28 يونيو 2022

يعلم الواحد منا جيدا أنه يجب عليه التوقف عند رؤية الإشارة الضوئية الحمراء أثناء قيادة مركبته، ويدرك أن عليه ربط حزام الأمان إذا رأى وميض الإشارة على شاشة القيادة، ويستطيع أن يميز بكل سهولة مطعم الوجبات السريعة المفضل لديه ليس فقط أثناء مروره في طريقه اليومي، بل وحتى في أي مكان في العالم. كما يدرك جميعنا ذلك الشعور عندما تتقلص الأقواس المحيطة بإشارة الإنترنت اللاسلكي (الواي فاي) على شريط التنبيهات في أجهزتنا الذكية، وتسحر الكثير من مستخدمي الشبكات الاجتماعية رموز الإعجاب وإعادات التغريد، ويستطيع أي فرد أن يميز في أقسام المشروبات الباردة في الأسواق أن العبوات ذات اللون الأزرق هي التي تحوي الحليب بينما تحوي العبوات ذات اللون الأخضر اللبن، وهكذا.

نحن لم نولد بالتأكيد مع وجود تلك «الإعدادات» مبرمجة بشكل مسبق في أذهاننا، فكيف إذن نستطيع فهم مدلولات تلك الرموز والعلامات والإشارات والألوان دون أن نتذكر أننا تعرضنا لتلقين مباشر حول كل تلك العناصر في أي فترة من فترات حياتنا؟ قد تكون الكلمة المفتاحية في الطرح أعلاه هي «البرمجة»؛ لكنها بكل تأكيد ليست بالصورة التي يمكن أن تتم باستخدام الأجهزة والأسلاك، وإنما لكون كل تلك الرموز والعلامات والإشارات والألوان كانت مدمجة في نظامنا الثقافي بمستوى يضمن مقدارا كافيا من تعرضنا لها بشكل متكرر في مراحل مختلفة من حياتنا بحيث تتحقق تلك «البرمجة» في أذهاننا بالمعنى المصاحب لها في سياق نظامنا الثقافي.

يعرف العلم المعني بهذه البرمجة بالسيميائية - أو السيميوطيقيا Semiotics - وقد يكون أبسط تعريف لهذا العلم هو أنه علم دراسة معاني الرموز في الثقافة، غير أن علما مثيرا للاهتمام كهذا جدير بأن يعرّف بشكل أفضل وأوسع، ويمكن في سبيل ذلك القول بأن السيميائية هي العلم الذي يعنى بتفسير مدلولات الرموز والعلامات والإشارات والألوان - بل وحتى الكلمات والأصوات وغيرها من عناصر التعبير - ضمن السياق الثقافي لمجتمع ما. ويركز هذا العلم على أهمية وجود ثلاثة عناصر مجتمعة من أجل أن يتحقق ذلك التفسير؛ أولها الدليل - أو الإشارة - The Signifier وهو الجزء المحسوس - بصريا أو سمعيا على الأقل - الذي يفترض به أن يشير إلى معنى معين، وثانيها الدلالة - أو المعنى - The Signified وهو المعنى المرتبط في الأذهان ضمن سياق ثقافي معين تجاه العنصر الأول «الدليل». أما العنصر الثالث فهو المدلول - أو المشار إليه - The Referent وهو الشيء الواقعي الذي يتم التطرق إليه في السياق.

لقد وضع اللغوي السويسري فيرديناند دي ساسيور - وهو أحد مؤسسي السيميائية - النموذج أعلاه الذي تم تبسيطه بأمثلة عديدة أبسطها «الشجرة»؛ حيث تكون كلمة الشجرة - بشكلها المكتوب أو صوتها المسموع - هي العنصر الأول أي الدليل أو الإشارة، بينما يكون العنصر الثاني أي المعنى هو ما تستدعيه تلك الإشارة في ذهن المتلقي، أي ما شكل الشجرة وما نوعها وما حجمها وفي أي بيئة تكون وما إلى ذلك من التفاصيل. أما العنصر الثالث «المدلول» فهو المعنى الحقيقي المقصود من كتابة أو قول كلمة الشجرة.

كما وضع علم السيميائية في الاعتبار دراسة الفروقات بين المعاني الحقيقية للرموز والعلامات والإشارات والألوان من جهة، وبين المعاني المتشكلة في السياقات الثقافية للمجتمعات، ولذلك وجد مفهوما المعنى الدلالي أو الحرفي Denotation والمعنى الإيحائي Connotation، حيث يركز الأول على الدلالة الحقيقية الأساسية للرمز أو العلامة أو الإشارة أو اللون، بينما يركز الثاني على الدلالة الناتجة عن الفهم الخاص بالسياق الثقافي التي قد تتغير باختلاف المجتمعات والأزمنة. وقد يكون أبسط الأمثلة على ذلك ما تستشهد به جامعة فيرمونت الأمريكية في معرض شرحها لمفاهيم السيميائية وهي صورة الوردة الحمراء؛ فبينما يكون المعنى الدلالي أو الحرفي هو أنها جزء من نبات معين يتشكل من غصن وبتلات حمراء وربما أوراق خضراء، فإن المعنى الإيحائي للوردة الحمراء هو التعبير عن مشاعر الود والمحبة.

وقد يكون أحد الأمثلة التي تبين تغير الدلالات الناتجة عن الفهم الثقافي باختلاف المجتمعات والأزمنة استخدامات ألوان الطيف مجتمعة. فبينما تعبر ألوان الطيف تاريخيا حول العالم وحتى وقت قريب في مجتمعاتنا عن المرح والتفاؤل والطفولة، فقد بدأت سرقة تلك المعاني لتحل محلها الدلالات المرتبطة بالشذوذ الجنسي الدخيل ليس فقط على ثقافة المنطقة والدين الإسلامي، بل وحتى على الطبيعة البشرية. وبالرغم من أن استخدام علم ألوان الطيف للترويج لأفكار الشذوذ الجنسي قد بدأ من سبعينيات القرن الماضي على يد أحد الجنود المتقاعدين من الجيش الأمريكي - يالسخرية القدر - إلا أن ذلك العلم قد اكتسب زخما متسارعا بسبب دور تقنيات ومنصات التواصل والإعلام من جهة، وشعارات الحريات وحقوق الإنسان من جهة أخرى.

إنه من المهم في هذه المرحلة وباعتبار العاملين المساعدين في انتشار فكر الشذوذ الجنسي المذكورين أعلاه التأكيد على حساسية دور كل فرد وكل جهة في منطقتنا في البرمجة التي قد تتشكل حول ألوان الطيف، والأهم من ذلك البرمجة التي قد تحدث نتيجة الأفكار المختبئة تحت غطاء ألوان الطيف تلك، وذلك بالرغم من كل «القيود» و«ممارسات التضييق» التي تتبعها منصات التواصل الاجتماعي تجاه كل من يطرح وجهة نظر معارضة لتلك الأفكار، وهو ما ينافي بشكل مطلق وصريح ما تدعيه تلك المنصات من دعم لحرية التعبير والاحتفاء بالتنوع الفكري والثقافي بين البشرية جمعاء.

بدر بن عبدالله الهنائي عضو مجلس Forbes لخبراء التواصل