عـن تـنـظـيـم الإعـلان
عند الحديث عن تنظيم أي قطاع فإنه عادة ما تبرز هنالك وجهتا نظر تتساءل الأولى حول ما إذا كانت ممارسات التنظيم ستكون مقيدة لذلك القطاع بشكل يحد من نموه ومساحة حركة الأطراف ضمن ذلك القطاع، بينما تتفاءل وجهة النظر الأخرى بما يمكن أن يترتب عن التنظيم من توزيع واضح للأدوار وإيجاد معايير الجودة والعناصر التي تكفل حقوق وواجبات الأطراف المرتبطة بذلك القطاع، خصوصا مع اعتبار أن سياق تلك الأحاديث يتضمن وجود الحكومة بصفتها طرفًا منظمًا.
وبالحديث عن الحكومة وتفاوت أدوارها النموذجية في «التدخل» في القضايا والموضوعات والقطاعات حسب تسمية مختبر السياسات العامة التابع للحكومة البريطانية UK Government Policy Lab، فإنه قد يكون من المفيد التعرف إلى الطيف الذي قام بتطويره ذلك المختبر والذي يضم سبعة مستويات من «التدخل» الذي يمكن أن تمارسه الحكومات في القضايا والموضوعات والقطاعات تبدأ من أدنى مستويات التدخل وهو التأثير، مرورا بمستويات الإشراك والتصميم والتطوير وتوفير الموارد وتأدية الدور الرئيسي، وانتهاء بأعلى درجات التدخل وهو التحكم. وينضوي تحت مستويات التدخل تلك 56 من الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الحكومات طبقا للمستويات السبعة وذلك حسب درجة حدّة الإجراء ومدى إلزاميته.
إن من الملفت للانتباه أن النموذج الذي طوره مختبر السياسات العامة البريطاني قد وضع إجراء «التنظيم» ضمن إجراءات مستوى التدخل الأعلى - وهو التحكم - وضمن درجة متوسطة الحدة. ويعرّف ذلك النموذج التنظيم بأنه قيام الحكومة بضمان وجود التنظيم اللازم من أجل تمكين وجود المخرجات المنشودة لسياسة الحكومة في ذلك القطاع، إضافة إلى تعديل التشريعات والقوانين والإجراءات والأدوات اللازمة في سبيل ذلك. إذن وبوضع ذلك في الاعتبار، كيف يمكن النظر إلى قيام الحكومات بتنظيم قطاعات ذات ديناميكية عالية وتتطلب مساحات من الإبداع والسرعة والمرونة مثل قطاع الإعلان؟
إن الحديث عن ضرورة تنظيم الإعلان في سلطنة عمان لا يعني بالضرورة أن القطاع غير منظم؛ لكن مع إلقاء بعض النظر الفاحص على هذا القطاع من أجل فهم الوضع الحالي، تتضح بعض العناصر التي يمكن أن تشكل نويات لمشروعات تطوير ممارسات تنظيم القطاع. ويمكن القول - نتيجة فهم الوضع الحالي - إن هنالك 14 جهة حكومية حسب الهيكلة الجديدة للجهاز الإداري للدولة تشترك في ممارسات تنظيم الإعلان. وتتنوع تلك الجهات في ممارستها للتنظيم وفقا لثلاثة عوامل؛ حيث تؤدي بعض تلك الجهات دورا في التنظيم حسب (نوع الوسائط الإعلانية) المستخدمة مثل اشتراط البلديات الحصول على تراخيص وضع الإعلانات الخارجية أو توزيع المنشورات الإعلانية المطبوعة، بينما تؤدي جهات حكومية أخرى دور التنظيم حسب (طبيعة القطاع أو النشاط التجاري) للجهة المعلنة مثل قيام وزارة الصحة باشتراط الحصول على الترخيص قبل نشر إعلانات لمنتجات أو خدمات طبية، وقيام هيئة تنظيم الاتصالات بمراقبة وتنظيم إعلانات الشركات المشغلة لخدمات الاتصالات، وقيام البنك المركزي العماني بمراقبة إعلانات الخدمات المصرفية والمالية، وقيام الهيئة العامة لسوق المال بمراقبة إعلانات خدمات التأمين، وغيرها. أما العامل الثالث فهو التنظيم حسب الممارسات التجارية، حيث تقوم وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار بالترخيص لإعلانات التنزيلات وسحوبات الجوائز، بينما تقوم هيئة حماية المستهلك بضبط الإعلانات التي قد تحتوي على الغش أو التضليل التجاري.
أما من ناحية ممارسات التنظيم ذاتها فيمكن أن تصنف هي الأخرى إلى صنفين؛ فبينما تتبع جهات مثل وزارة الصحة والبلديات التابعة لوزارة الداخلية الرقابة المسبقة - أي اشتراط الحصول على ترخيص من أجل قبل القيام بنشر الإعلان - تقوم جهات مثل هيئة تنظيم الاتصالات باتباع نهج الرقابة اللاحقة - أي رصد الإعلانات المخالفة للاشتراطات المحددة مسبقا من قبلها - التي من ضمنها على سبيل المثال تجنب استخدام اسم التفضيل «بوزن أفعل» أو ادعاء حقيقة معينة دون إثباتها من جهة رسمية.
وبالرغم من مستويات النضج والتعقيد في منظومة الجهات المعنية بتنظيم الإعلان في سلطنة عمان، إلا أن هنالك بعض جوانب التحسين التي يمكن وضعها بعين الاعتبار. فإلى جانب تعزيز سهولة ومركزية تلك المنظومة تحت مظلة الجهة الرئيسية - وزارة الإعلام - فإنه يمكن أيضا الالتفات إلى بعض الثغرات التي قد تكون من إفرازات التطور المتسارع في تقنية المعلومات والاتصالات، وسلوك المستهلك، والتوجهات الحديثة في الإعلان، والتي يتركز جلها في منصات التواصل الاجتماعي والتسويق عبر الفاعلين - أو المؤثرين - إضافة إلى مدى قدرات جهات إنفاذ القانون على تتبع وملاحقة المعلنين المخالفين للأنظمة وحجب المحتوى الإعلاني غير الممتثل لتلك الأنظمة.
إن الحديث عن تنظيم قطاع الإعلان بما يواكب مستجدات العصر ليس ضربا من ضروب الأحلام؛ فبالنظر إلى محيطنا الإقليمي والدولي يمكن الاستئناس ببعض التجارب التي تساعد على استكمال مسيرة تنظيم الإعلان من حيث انتهى الآخرون. في سنغافورة مثلا تم تأسيس هيئة تنظيم الإعلان السنغافورية عام 1976 وهي تتبع الجمعية السنغافورية للمستهلكين وتضم تحت مظلتها ممثلين من 15 جهة حكومية وغير حكومية في مجلسها الاستشاري، وهي الجهات التي يقع ضمن اهتمامها تنظيم وترخيص الإعلانات مثل الجهات المعنية بالغذاء والأدوية والإعلام والتجارة وغيرها، وتتبنى الهيئة - على سبيل المثال - تنظيم الإعلانات المتعلقة بقيادة السيارات مثل تلك المشجعة على السرعة والتهور وانبعاثات السيارات وذكر أقل سعر بجانب صورة أعلى طراز والمبالغة في استعراض ميزات السلامة. كما تقوم الهيئة كذلك بمراقبة الإعلانات الموجهة للأطفال بما يضمن حماية هذه الفئة مما قد يؤثر على سلوكهم أو يعرضهم للخطر أو الاستغلال.
أما في بريطانيا فقد تأسست في العام 1961 هيئة قطاعية غير حكومية بمسمى هيئة تنظيم الإعلان البريطانية، وشهدت الهيئة خلال مسيرتها تطورا من حيث مركزية التنظيم مثل قيام هيئة تنظيم الاتصالات والبث الإعلامي Ofcom بتعهد مهمة مراقبة الإعلانات المرتبطة بعملها إلى هيئة تنظيم الإعلان. وتتبع الهيئة نظام الرقابة اللاحقة (بعد النشر) مع وجود أدلة استرشادية واضحة يتم تحديثها باستمرار، مع أهمية وجود أربعة عناصر أساسية في الإعلانات تتمثل في: مطابقتها للقوانين المعمول بها في الدولة، وأن تكون لائقة اجتماعيا، وأن تكون صادقة في رسالتها، وأخيرا أن تكون مبنية على الحقائق.
بدر بن عبدالله الهنائي عضو مجلس Forbes لخبراء التواصل
