عبد الرحمن بدوي من اهتمام بالاستشراق إلى نقضه

26 يناير 2022
26 يناير 2022

يعتبر الأكاديمي والباحث المعروف د. عبد الرحمن بدوي، من الأكاديميين العرب البارزين، درس الفلسفة الوجودية دراسة متأصلة وتم اعتناقها كما يروي تلميذه أنيس منصور.

ترجم بدوي ما يقرب من 150 كتاباً في شتى المجالات الفكرية والفلسفية العربية والأجنبية، ومنها عشرات الكتب في الفلسفة اليونانية والغربية عموماً. يذكر عبد الرحمن بدوي عن قصة التوجه الفكر الوجودي، كما يقول د. محمد عمارة، ناقلاً عنه فيقول:« سافرت سنة 1937 للدراسة في جامعة ميونخ، فتوفرت لي قراءة مؤلفات (هيدجر)، رائد الفلسفة الوجودية الحديثة، وزميله (كارل ياسبرل) ( 1969ـ1883)، وينتج عن ذلك أن بدأت أرى الوجودية خير مذهب فلسفي يطابق روح العصر، ويعبر عن حال الإنسان، ويهتم بكل ما يتعلق بالأحوال الإنسانية، ومن هنا يمكن أن يقال إن تفكيري الفلسفي الخاص بالوجودية قد نبع من منبعين: فلسفة (هيدجر) من ناحية، ونزعات ( نيتشه) (1844ـ 1900) من ناحية أخرى».

ولتعلق د. بدوي بالفلسفة الغربية، وأجواء الوجودية في باريس، وفيها جان بول سارتر وغيرهم من الوجوديين، ومن غيرهم من الفلاسفة في فترة المد الفلسفي الغربي بكل تياراته الفكرية، اختار د. عبد الرحمن بدوي فرنسا لإقامته الدائمة، وسبق ذلك أن درّس في الكويت، ثم ليبيا، ثم غادر إلى باريس، وبقي فيها لعدة عقود في العاصمة محاضراً في إحدى جامعاتها، لكن أنيس منصور يروي في كتابه «أعجبني هؤلاء»، سبب خروجه والبقاء في باريس في هذه الفترة الطويلة، من حياته الفكرية، بسبب القرارات الاشتراكية، في مصر بعد ثورة 1952، إذ تم نزع بعض أملاك أسرته، وتأثر كثيراً من هذا الإجراء، مع أنه كان أحد الأكاديميين الذين ساهموا في صياغة الدستور بعد الثورة وانتهاء النظام الملكي.

ولذلك يعد د.عبد الرحمن بدوي من القمم الفكرية، في موسوعية معرفته الفكرية العربية والأجنبية، خاصة النظريات الفلسفية القديمة والحديثة، والإشكال الذي من انتشاره في الوطن العربي، هو ابتعاده عن وطنه، وجعل أجيالا لا تعرف جهوده الفكرية الكبيرة، فيما أنجزه من معارف ومن موسوعات عديدة، ويرى الناقد اللبناني جهاد فاضل عن هذه المسألة التي أبعدت بدوي عن الأضواء الفكرية :«لعل مشكلة بدوي كانت غربته عن مصر التي يشرح ظروفها في سيرة حياته وسوء التفاهم الذي نشأ بينه وبين مصر والمصريين، والتعالي الذي تنضح به مذكراته عن مصر ورموزها السياسية والفكرية على مدار القرن العشرين! إذا سئل المثقف المصري عن القمم الأدبية المصرية في القرن العشرين، أجاب على الفور: طه حسين وعباس محمود العقاد وتوفيق الحكيم، فإذا سئل عن رأيه بعبد الرحمن بدوي أجاب بعد صمت قصير: إنه من أنبه تلاميذ طه حسين وأكثرهم اجتهاداً وتأليفاً. وهذا يعني أن بدوي برأيه لا يدخل في عداد القمم الثلاث المكرسة، وإنه كان لا يغمطه حقه ولا يحجب عنه اعتباره، والواقع أن هذه النظرة المصرية، إن جاز التعبير، إلى بدوي بحاجة إلي مراجعة».

وقد كان للدكتور بدوي، حوارات ومناقشات، مع بعض المفكرين المصريين في عصره، خاصة طه حسين، وعباس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وغيرهم، وكأنه بطبيعته حاد في نقده كما عُرف عنه وما قاله في مذكراته (سيرة حياتي)، ولامه العديد من الكتاب بسبب حدته في النقد للآخرين، فهو لا يقل صراحة عن عباس العقاد على وجه الأخص، بل يزيد عليه، عندما يرد على بعضهم في ما أشار إليه أنيس منصور في كتابه المهم، «في صالون العقاد كانت لنا أيام»، لكن علاقته بالدكتور طه حسين جيدة على أقل تقدير، بحكم أن الأخير كان مشرفاً على رسالته في الماجستير والدكتوراه، ومعجباً به كما أشرنا في تعليقه على رسالة بدوي في (الزمان الوجودي)، لكن يظل د.عبد الرحمن بدوي منعزلاً عن بقية المفكرين والباحثين في مصر، فسرها البعض، بأن بدوي متعالٍ على الآخرين وهذا ما قاله الناقد الماركسي د. محمود آمين العالم، لكن البعض يرى أن سبب عزلته كونه منهمك في كتاباته ودراساته التي أنتجت المئات من المؤلفات والأبحاث الفكرية والفلسفية.

وكان المفكر عباس محمود العقاد، قد شن نقداً عنيفاً على الفلسفة الوجودية، في كتابات متناثرة له، لكنه في تقييمه للوجودية في كتابه، «عقائد المفكرين» كان هادئاً، فيقول إن :«الوجودية مدرسة والنطاق ينتمي إليها المؤمنون والملحدون، وبين فلاسفتها أناس متدينون متصوفون لعلهم أكثر عدداً من الوجوديين المنكرين ـ وهذا كان في الخمسينات من القرن الماضي ـ إذ ليست الوجودية في ذاتها دعوة مخالفة للدين ولا للعقائد للخلفية، وليس من مذاهبها من وحدة مشتركة غير إنصاف (الشخصية الإنسانية)، أمام الجماعة في عصر شاعت فيه قيمة الكثرة والزحام، وقلت قيمة المزايا والصفات/ وما عدا ذلك من التفصيلات فإنما يقع فيه الخلاف تبعاً لموضوع النزاع بين الحرية الشخصية وطغيان الجماعة».

لكن أنيس منصور في كتابه «في صالون العقاد كانت لنا أيام»، قال عن حوار مع عباس العقاد عن الوجودية، مع أنه يقول: إنني أخشى من نقد العقاد، وكنت وجودياً آنذاك، مع عبد الرحمن بدوي في نفس الفكر الوجودي في ذلك الوقت، فـ :«كنت أتباهى بالفلسفة الوجودية الجديدة. وكان العقاد يكرهها. ويهاجمها بعنف. وكنت لا أقوى على المجاهرة بذلك. أما منطق العقاد فهو أن الفلسفة الوجودية إن لم تكن مريضة، فهي من أعراض المرض، لأن المريض هو الإنسان الذي ليس معتدل المزاج، أو الذي ترتعش في يديه وتتراقص أمام عينيه الأشياء.. والوجودية تبالغ في مفهوم الحرية والقلق والموت عند الإنسان. وتعطي للإنسان ما لا يستحق من الوزن وتسلب الكون ما يستحق من الوزن».

لكن عبد الرحمن لم ينس للعقاد هذا النقد العنيف، ونقل الكاتب فهد التميمي في أحد مقالاته بعنوان «الساخط عبد الرحمن بدوي»، وتحدث فيها عن شخصيات عرفها واختلف معها، وانتقدها، فنقل عنه فيقول عن د. عبد الرحمن بدوي واصفاً :«كان العقاد طول حياته مأجوراً لحزب من الأحزاب «الوفد»، وكان يستخدم سلاطة لسانه وما يزعمه لنفسه من قوة عارضة في التطاول على الخصوم مَن يُستغل للدفاع عنهم، فكتب العقاد مقالات ضد الإخوان المسلمين، لكن هؤلاء سكتوا ولم يحركوا ساكناً، ثم انكفأ بعد ذلك يهاجم «مصر الفتاة» - الحزب الذي ينتمي إليه عبدالرحمن بدوي-، فلما كتب أول مقال تشاورنا بماذا نرد؟ فرأى أحدنا أن يكون الرد قاسيا في مجلة مصر الفتاة، وفعلاً كُتب المقال بعنوان «العقاد جهول يريد أن يعلّم الناس ما لا يعلم» فكتب العقاد مقالاً آخر أشد وأعنف، فلا علاج للعقاد سوى العنف -الضرب- معه، وأخذ برأيي اثنان من أعضاء الحزب، فتربصا للعقاد وهو عائد إلى بيته، وانهالا عليه «بالضرب والصفع والركل»، وأفهماه أن هذا تأديب مبدئي بسبب مقالين ضد مصر الفتاة، فإن عاد سيعودوا إليه بما هو أشد نكالا، وأحدثت هذه «العلقه» أثرها الحاسم».

عبدالله العليان كاتب وباحث في القضايا السياسية والفكرية: مؤلف كتاب «حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين».