عالمٌ متقلب.. إنسانٌ مُتكيف

31 ديسمبر 2022
31 ديسمبر 2022

في الحديث عن التقلبات المتسارعة التي يشهدها عالمنا من الاقتصاد إلى التقانة إلى الصحة والسياسة والمجتمع يجد المتتبع أن صيرورة هذا التسارع إنما هي في حقيقتها توليدٌ لعدد مهول من الاستفهامات والأسئلة أكثر من كونها رفدٌ بالإجابات واليقين، والمفارقة أنه برغم التعاظم المعرفي وسرعة تدفق البيانات والمعلومات المهولة إلا أننا نجد أن كل ذلك في تقديرنا يولد اليوم الكثير من الأسئلة الحائرة أمام الأفراد والجماعات الاجتماعية والمجتمعات والدول على حد سواء. على مستوى التخطيط الاستراتيجي شاع لسنوات مفهوم "عالم الفوكا VUCA" في إشارة إلى الخصائص الأربع التي تسم حركة العالم وهي: التقلب (Volatility) وعدم اليقين (Uncertainty) والغموض (Ambiguity) والتعقيد (Complexity)، وتتغلغل هذه الخصائص الأربعة ممتدة إلى نماذج الأعمال التجارية وإلى الاقتصاد والأسواق وإلى المعرفة والبحث العلمي وإلى التقنية وإلى أبعد من ذلك في حياتنا وتعاملاتنا اليومية. إلا أن جائحة كورونا (كوفيد 19) وسياقها الزمني والأحداث التي ولدتها تنبئ أننا أمام عالمٍ جديد اختار له الأنثربولوجي الأمريكي جيمس كاسيو مصطلح (عالم BANI). في إشارة إلى خصائص أربع موازية تسم مرحلة ما بعد كوفيد19 وهي الهشاشة (Brittle) وقلِق (Anxious) وغير خطي (Nonlinear) وغير مفهوم (Incomprehensible). الأمر الذي يعصف بمسار توقعات الخطط الاستراتيجية وتنبؤات الأسواق والمسارات المتوقعة للأعمال المؤسسية وينعكس كل ذلك على الأفراد والمجتمعات بصورة حتمية دون أي قدرة للنظم على تحييد ذلك التأثير أو التعاطي معه.

يمكننا اليوم الحديث عن اضطراب في سلسلة توريد معينة قد تنهار على ضوئه اقتصادات أو يضرب فيها التضخم طبقاتها الاجتماعية. أو اختلال في إمدادات الطاقة من شأنه أن يدفع بالسياسة العالمية إلى حالة من القلق يعاد على ضوءها تشكيل التحالفات والتكتلات وبناء أنماط جديدة من التفاوض العالمي. يقول ستيفان ميتسكوس: "إن العالم المترابط بشكل متزايد يعني أن النظام الهش يمكن أن يكون له عواقب وخيمة. يمكن أن يؤدي فشل هيكل مهم إلى سلسلة كاملة من الإخفاقات. أحد الأمثلة على ذلك هو الأزمة المالية العالمية لعام 2007، والتي تظهر أن الأعراض الحالية يمكن أن تؤدي إلى تأثير كرة الثلج العالمية". إذن هناك أربعة عناصر أساسية يمكن أن تعقد هذه الفوضى والتقلبات التي تعصف بالعالم وهي: التشابكية العالية وغير المحدودة – فيض المعلومات في مقابل تقلص القدرة على اتخاذ القرار – طبيعة الكائن البشري التي أصبحت قلقة ومتشائمة نتيجة أحداث العالم – فشل الرهان على الاستراتيجية بعيدة المدى. وأمام كل عنصر من هذه العناصر يمكن أن نتأمل في كل سياق عمل أو وجه من أوجه حياتنا واسقاط العناصر عليه وسنجد أننا أمام طوفان مهول من الأسئلة التي تستعصي الإجابة القاطعة عليها من ناحية وأمام حالة من الهشاشة النفسية والمعرفية تطبع محيطنا وعالمنا. هل سنصبح لاجئي مناخ؟ هل ستقضي التقانة على وظائفنا المعهودة؟ هل ستحول الميتافيرس أنماط علاقاتنا وطقوسها؟ أم أن كل ذلك سيبقى على بعد مسافة منا يمكن في تلك المسافة لنا أن نتحكم/ نتصرف/ نوجه/ نخطط.

ما يعنينا في هذه المقالة هو معرفة ما يحتاجه الإنسان في (عالم BANI) وكيف يمكن للمؤسسات أن تشتغل على نموذج (الإنسان المتكيف Adaptive human) وحين نتحدث عن المؤسسات فنحن نتحدث عن أنسنة الخطاب وتمحوره للتعاطي مع إنسان يعيش في عالم من عدم اليقين سواء كان الخطاب إعلاميًا أو تربويًا أو اقتصاديًا أو سواها من أنماط الخطاب. وما الذي يتوجب على المرء نفسه أن يفعل إزاء كل ذلك. في الحديث عن المستقبل يتم الحديث عن "مهارات المستقبل" وقرنها بشكل واسع بأنماط التمدرس والتطور المهني. إلا أننا نحتاج أيضًا إلى التركيز بشكل أكبر في الأدبيات على الأدوات التي تسمح للإنسان في مختلف أوجه حياته للتعاطي مع هذا التصاعد العالمي التاريخي للقلق. وأمام ذلك نعتقد بأربع خصالٍ يمكن أن يبني عليها المرء والمؤسسات واقع اليوم وهي:

- الاتساع المعرفي في مقابل التخصصية المحضة.

- العمل العميق في مقابل التشتت.

- التنبه للتحيزات والتشوهات الإدراكية في مقابل سطوتها.

- المرونة والتقبل.

في الخصلة الأولى ننتصر لأطروحة ديفيد إبستاين بعنوان: "المدى: لماذا ينتصر غير المتخصصين في عالم متخصص؟" والتي يرى فيها أن عالمنا الذي نعيشه يوجب على الفرد التحلي بقدرات ومهارات غير محصورة في تخصص بعينه. وأن حركة العالم والتاريخ تشهد انحسارًا للمسائل المتخصصة، وأن رهان المرء اليوم في قدرته على عبور التخصصات واكتساب أكبر قدرة من المهارات في فروع متعددة وخاصة قبل نهاية العشرين من عمره. أما في الخصلة الثانية فننتصر لأطروحة كارل نيوبورت حول العمل العميق والتي يضرب فيها مثالًا على توم كوكران (مدير قسم التكنولوجيا بأتلانتيك ميديا) الذي دفعه التأمل في الوقت الذي يستغرقه في الرد على رسائل البريد الإلكتروني إلى إجراء دراسة حول كافة موظفي شركته لتقصي كلفة ذلك حيث كشفت دراسته أن الشركة تدفع ما يزيد على مليون دولار سنويًا لأشخاص يعملون بإرسال واستقبال رسائل البريد الإلكتروني وأن كل رسالة بريد إلكتروني (قياسًا بالوقت اللازم للتعامل معها وقدرات الموظفين وانتاجيتهم) تكلف الشركة 95 سنتًا من تكاليف اليد العاملة وهو يشير هنا إلى أهمية "العمل العميق" قريبًا من تجربة التخصيص والتحكم وبعيدًا عن المشتتات بما فيها طوفان التواصل الاجتماعي الذي يداهمنا اليوم. يقول نيوبورت: "إذا كنت تريد التخلص من الإنجذاب الإدماني تجاه المواقع الترفيهية التي تستنزف وقتك وانتباهك، فاشغل ذهنك ببديل جيد وستشعر أنك تعيش حقًا، ولست متواجدًا في هذه الحياة وحسب". نحتاج أيضًا إلى وعي أكبر بعاداتنا وكشف أكبر عن تحيزاتنا الإدراكية في التفكير والتدبير كمفارقة المعرفة والارتساء وتكلفة الفرص الضائعة وسواها. والأهم أننا نحتاج إلى المزيد من المرونة والتقبل في بيئات عملنا وفي أوساطنا الاجتماعية وفي تغير مجالاتنا وسياقات اهتمامنا وشرط المرونة الأساس هو الوعي بالذات والآخر في السياق المحيط وفي القدرة على التوقع وطرح الاحتمالات ووضع السيناريوهات المناسبة كمًا وكيفًا لكل احتمال يواجهنا ويمكن أن يعصف بنا.