ضروريات الاستهلاك .. جيل غارق في الكماليات

27 مارس 2023
27 مارس 2023

عندما نفكر في شراء سلعة ليس من الضروري شراؤها أو عندما نريد أن نستفيد من خدمة غير ضرورية بتكلفة مرتفعة فإن ذلك يعد من الكماليات التي غالبا ما يكون الدافع لاقتنائها إشباع الرغبة العاطفية والنفسية للإنسان، وهي بمثابة الإضافات وليست من أساسيات الحياة التي لا يستطيع أفراد المجتمع العيش بدونها؛ فمثلا عند شراء منزل أو مركبة يعد أمرا من أساسيات الحياة، ولكن عند شراء منزل فاخر أو مركبة فاخرة يعد من الكماليات فالأساس امتلاك المركبة وليس نوعها، أيضا عند بناء منزل بهدف امتلاكه والعيش فيه يعد من الأساسيات لكن بناء منزل بأعلى التكاليف والمواصفات من كماليات امتلاكه. والأصل هو الحصول على ما نحتاج وليس ما نريد خاصة في الأوقات التي يعاني فيها الإنسان من ضعف الجانب المادي مقارنة بمتطلبات حياته الاجتماعية اليومية بغض النظر إن كانت ضرورية أم لا؛ فالكماليات وإن كانت مهمة لسد النقص ولإشباع الجانب العاطفي والنفسي للإنسان لكن لا يمكن أن تشغل الجيل الحالي عن امتلاك الضروريات التي تمثل أولويات الاستقرار والانتقال من مرحلة لأخرى في حياته اليومية، ولنعود بالذاكرة لجيل الآباء والأجداد فإن اهتمامهم يتمحور حول توفير أساسيات الحياة اليومية ولم يكونوا مهتمين بتوفير الكماليات، وكان المحظوظ من يستطيع توفير حاجياته الأساسية (قوت يومه)، والصراحة أن جيل الأمس لا يعرف الكماليات أساسا، ومع تحسن مستوى الرفاه المجتمعي وانتعاش الاقتصاد ودخول أساليب الترفيه والتسلية إضافة إلى كثرة الإعلانات الترويجية والتسويقية خاصة في شبكات التواصل الاجتماعي أصبح الجيل الحالي ينصب تركيزه على اقتناء الكماليات وإن كانت على حساب توفير الأساسيات، بل الأخطر من ذلك يصرف على الكماليات مبالغ طائلة ويقتني منتجات غير ضرورية بمبالغ باهظة مما زاد من حدة الالتزامات المالية المترتبة عليه وارتفعت نسبة الاستدانة لدى أفراد المجتمع مقارنة بالمدخول الشهري، والحقيقة أن الذي ساعد على استمرار الفرد مواصلة انتهاج سلوك الاستهلاك التكميلي هو حصوله على دخل ثابت شهري يزيد مع تنوع مصادر دخل الفرد أو حصوله على ترقية مادية من جهة العمل.

إن التقليد الأعمى الذي يعاني منه أفراد المجتمع في بعض الأمور أربك تفكيرهم في التفريق بين ما يحتاجونه وما يريدونه؛ فالملاحظ أن هناك ميلانا تجاه الحصول على الكماليات بشدة مقارنة بالحصول على الضروريات فزاد الإقبال على شراء الأثاث والملابس والعطور وأدوات الزينة والسفر للسياحة إلى خارج البلاد وهي في الحقيقة باهظة الثمن مما يضطر الناس للاستدانة والعجز عن توفير المتطلبات الأساسية والسبب في رأيي إشباع الرغبة العاطفية والنفسية وتقليد من حولهم وهنا ينبغي أن نعترف بأن أكثر ما أرهق الأسر ماديا وأدخلهم في الأزمات الاقتصادية وجعلهم يقعون في دوامة الحاجة إلى الاقتراض وعدم مقدرتهم على التوفير من أجل مواجهة الظروف المادية الطارئة والقاهرة، وهذا ما تجنبه جيل الآباء والأجداد بجدارة واقتدار؛ فهل كان جيل الأمس أكثر حكمة في الإنفاق والاهتمام بتوفير الضروريات من الجيل الحالي؟ الإجابة بصراحة تامة.. نعم، فمنازل الآباء والأجداد قديما تحتوي على ما يفي بالحاجة في المطبخ والمجلس والصالة ولم نذكر يوما أن وجدنا عديدا من القدور والأثاث والعطور غير الضرورية أو أكثر من الحاجة، بل كانت منازلهم أكثر جمالية وبساطة وتحوي على مواد معلقة للزينة في الجدران التي تعرفنا بتراثنا العريق مثل «وتد» من الخشب مثبت على الجدار لتعليق الثياب عليه، و«السمة» وهي عبارة عن سفرة للطعام مصنوعة من خوص النخيل تعلق في الجدار بعد نفضها ليسقط ما بقي فيها من بقايا الطعام وتستخدم لأعوام عديدة وليس ليوم واحد أو مرة واحدة كما هو الوضع الآن، أيضا كانت «السحارة» وهي عبارة عن صندوق خشبي أو حديدي تستخدم لحفظ الثياب والأمتعة وكافة المستلزمات الشخصية وتأخذ حيزا صغيرا مع السرير من الغرفة ذات المساحة التي لا تتجاوز غالبا 10 أمتار مربعة تتزين بـ «الصراج» أو ما يعرف بالقنديل والشرفة الصغيرة التي تهب علينا بنسمات الهواء الباردة العليلة، أما اليوم فأصبحت هناك غرف بمساحات واسعة مليئة بالإضاءة مخصصة للملابس وأخرى للسرير، فهل جيلنا الحالي يدرك ضروريات الاستهلاك؟ أم لا يزال يتّبع الرغبات النفسية والعاطفية للجري خلف الكماليات؟

ومع طغيان الكماليات والسلع الأكسسوارية على حياتنا اليومية، وأصبحت تحظى باهتمام الجمهور أكثر من الضروريات والأساسيات، فإني أعجب من قضاء كثير من الأشخاص سنوات عديدة لسداد أقساط البنوك ليمتلكوا منزلا فاخرا أو مركبة فاخرة بيد أنه بالإمكان تقليل حدة القسط الشهري للبنك عبر شراء مركبة أو منزل يفي بالحاجة والغرض ويوفّر الاستقرار للأسر، ولو نظر حوله لوجد أنه يستطيع أن يستفيد من تطبيقات الاقتصاد التشاركي التي تعينه على الاستفادة من الأصول التي حوله في مرحلة تكوين نفسه خاصة في السنوات الأولى من الوظيفة؛ فالاقتصاد التشاركي يسمح للأفراد بتبادل منافع الأصول بدلا من امتلاكها دون الاستفادة منها كليا، كذلك بالإمكان أن يشتري الشخص منزلا صغيرا يؤويه هو وأسرته بدلا من دفع مبالغ طائلة على الإيجار وكما يقول الآباء والأجداد: «إن الإيجار دم فاسد» والمثل يقول: «ليكن البيت أول ما يبتاع، وآخر ما يباع»، ومن الممارسات التي زادتني استغرابا أن يستدين الفرد للسفر والسياحة أو يستخدم البطاقة الائتمانية ولا يفكر في أن يستدين لتوفير الضروريات، وعند العودة من السفر يظل طوال العام يدفع أقساطا على خدمة لحظية استفاد منها ولكن وضعته في موقف صعب لتوفير متطلبات الحياة اليومية، والأخطر من ذلك قيام الأسر محدودة الدخل المنخفض بالسير على نهج الأسر ذات الدخل المرتفع عبر تقليدهم في السفر والترفيه خلال الإجازة الصيفية وكأنه أصبح من الواجبات السنوية التي لا ينبغي الحياد عنها، وهنا يتضح غياب التخطيط الاستراتيجي للأسر التي تعاني من ضعف في الدخل الشهري أو الأسر التي تعتمد على دخل واحد «الراتب الشهري»، ونتيجة لغياب التخطيط الاستراتيجي لعديد من الأسر التي تتفاجأ لاحقا بتراكم الديون والالتزامات المالية؛ فإن ذلك يحرم الأشخاص من الاستمتاع بالحصول على ما ترغب أو ترجو، فهل لا نزال نركز على الكماليات ونهمل الضروريات؟ إذا كانت الإجابة نعم فنحن بحاجة إلى الجلوس مع أنفسنا ومراجعة هذه الممارسات الخاطئة التي لا خير فيها فهي طريق مظلمة نهايتها وهي الدخول في دائرة الديون والمطالبات المالية.

أخيرا.. إن وجود الكماليات في حياتنا اليومية أصبح ظاهرة واقعية يصعب التخلي عنها في كثير من الأحيان وذلك لطبيعة النفس البشرية التي تميل إلى إشباع رغباتها ولو كان على حساب توفير ضروريات الحياة اليومية، ولو فكرنا بعقلانية لوجدنا أن ضعف الجانب المادي سببه السعي وراء اقتناء الكماليات التي يستطيع أن يعيش بدونها مقارنة بالضروريات، ولهذا كان جيل الآباء والأجداد يرجح كفة العقل على كفة العاطفة قبل أن يفكر في شراء الكماليات.